خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

عقد النصارى

في هذه الأيام التي يتعرض فيها إخواننا المسيحيون لشتى أنواع الاضطهاد والإرهاب في العراق وسوريا، علينا أن نتذكر المكانة التي كانوا يحتلونها في قلوب المسلمين. ما زلت أتذكر في بغداد المحلة أو الحارة التي كانوا يسكنونها بأمان في بغداد القديمة منذ أيام العباسيين، وتعرف باسم «عقد النصارى» والعقد هو الزقاق. وبجانب عقد النصارى كان عقد اليهود.
كانت هناك في بغداد أكثر من 70 ديرا وكنيسة. اشتهرت منها كنيسة القديس جرجيس في هذا العقد. عششت اللقالق على قبتها الكبيرة فسميت بكنيسة أم اللقالق. اعتادت العوائل المسيحية أن تخرج يوم الأحد بأجمل الملابس والزينة والمكياج للعبادة في الكنيسة. وكانت مواكبهم تجتذب أنظار شباب المسلمين وتثير عواطفهم فيقعون في حب فتياتها. أضفى ذلك ثروة على الأدب العربي بما تفتق عن هذا الهوى من قصائد وأغانٍ. كان من أشهرها أغنية «يا راهب الدير هل مرت بك الإبل»، وهي قصيدة وأغنية شاعت في الكثير من البلاد العربية وجاء ذكرها في ألف ليلة وليلة.
يقال إن أحد جنود الخليفة العباسي رحل من مصر ونزل في عقد النصارى، ووقع في حب إحداهن، وعندما عاد لمصر تملكه الشوق، فكتب هذه القصيدة التي يعبر حوارها عن روح الأخوة التي ربطت في تاريخنا الإسلامي بين المسلمين وإخوانهم المسيحيين:
لما علمت بأن القوم قد رحلوا
وراهب الدير بالناقوس منشغل
شبكت عشري على رأس وقلت له
يا راهب الدير هل مرّت بك الأبلُ
يا راهب الدير بالإنجيل تخبرني
عن البدور اللواتي ها هنا نزلوا
فحنّ لي وشكى وأنّ لي وبكى
وقال لي يا فتى ضاقت بك الحيل
إن البدور اللواتي جئت تطلبها
بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا

غنى هذه الأغنية قارئ المقام الشهير ناظم الغزالي وقبله محمد القبانجي الذي كان يعمل في دكان أبيه في نفس المنطقة. والظاهر أنه هو أيضا وقع في هوى إحداهن في طريقها للكنيسة، فبث همومه في أغنيته الشعبية المشهورة:
يا نصارى إش صار بيكم؟
ما تضيفون اللي يجيكم
لأصعد لعيسى نبيكم
وأسأله يسوي لي تشارة

(و{تشارة} كلمة عامية عراقية مأخوذة من اللغة الكردية بمعنى {حل})
احتج بعض القوم على هذه الأغنية واعتبروها طائفية تثير الحزازات ضد المسيحيين وتتضمن كفرا في الصعود إلى السماء لمكالمة السيد المسيح عليه السلام ليتدخل ويتوسط له مع من يحب. ألقوا القبض على محمد القبانجي وأحالوه لمحكمة شهيرة تعلقت بحرية الفكر والإيمان. انقسم الجمهور وقدمت عرائض ومضبطات وشهادات في الموضوع بما أقنع المحكمة ببراءة المطرب، فشاعت الأغنية في العراق يغنيها المسيحيون واليهود والمسلمون. كانت أيام خير جرّت شاعرا آخر إلى هوى بنات عقد النصارى، الشيخ محمد سعيد الحبوبي، فأنشد وقال:
فلو رأتك النصارى في كنائسها
مصورا ربعت فيك الأقانيما