د. ياسر عبد العزيز
TT

مختبر المكانة المعاصر

في عام 1759 أصدر آدم سميث كتابه المهم «نظرية المشاعر الأخلاقية»، وهو الكتاب الذي تساءل فيه: «ما غاية كل كدح وسعي في هذا العالم، وما هدف الجشع والطموح وطلب الثروة والسلطة والتفوق، أهو توفير ضرورات الطبيعة وسد الحاجات الفسيولوجية للإنسان؟».
يجيب سميث عن السؤال بقوله: «إن أجر أهون عامل يكفي لكي يوفر هذه المطالب ويسد هذه الحاجات. أما دافع السعي الأهم فليس سوى أن نكون تحت أنظار الآخرين، وأن نحظى بالإعجاب».
لطالما كان السعي إلى حصد التقدير والإعجاب وسيلة لتحقيق هدف ثمين، وفي غضون ذلك شهدت البشرية الكثير من المآسي حينما تصادمت الإرادات على طريق تحقيق هذا الهدف. ومن جانب آخر، فإن تقدم الحضارة الإنسانية وتطورها ربما لم يكن سوى محصلة لاعتماد تلك الوسيلة وإحدى أهم ثمراتها.
سيأتي العالم إبراهام ماسلو لينشر بحثاً تحت عنوان «نظرية الدافع البشري»، في عام 1943. وفي هذا البحث سيُرسي قائمة ويقول إنها تمثل «هرم الاحتياجات الإنسانية»، وسيبدأها بالاحتياجات الفسيولوجية كالتنفس والطعام والشراب، ثم الحاجة إلى الأمان، فالاحتياجات الاجتماعية، ثم الحصول على التقدير، قبل أن يصل إلى ذروة سنام الهرم عادّاً أنها ليست سوى «الحاجة إلى تحقيق الذات».
تلك مدرسة ضخمة متكاملة انتظم عطاؤها في رصد الدوافع البشرية وآليات التحفيز الإنسانية، وقد باتت في وضع من الاستقرار والتمكن بحيث يمكنها القطع بأن المكانة التي يتمتع بها شخص ما وتقدير الآخرين له عبر الحصول على اعترافهم وإعجابهم يمثلان هدفاً جوهرياً ودافعاً للعمل والاجتهاد والمنافسة في آن. ستظهر انتقادات علمية رصينة لتلك المدرسة، ومن أبرزها ما يأخذ عليها الإخفاق في تفسير حالة بعض البشر الذين يتجاوزون تراتبية «هرم ماسلو»، ويبدلون مواقع الحاجات المندرجة فيه، كما سيأخذ آخرون عليها اعتمادها على نتائج بحوث أُجريت على عينات ضيقة لا تفسح المجال لتقصٍّ يَخلُص إلى حكم واسع باتساع حالة النفس البشرية.
ومع ذلك، فإن نتائج تلك المدرسة باتت أكثر وجاهة من محاولات دحضها، لكنها الآن ربما تدخل في امتحان جديد؛ إذ يبدو أن آلية تقدير إعجاب الآخرين، ومحددات تحقيق الذات، أضحت أكثر قابلية للتعيين، في عهد وسائل «التواصل الاجتماعي».
في يناير (كانون الثاني) 2019، نشرت الباحثة ألكسندرا غوميز ورقة في «النشرة الدولية لبحوث الاتصال»، ومما كتبته في تلك الورقة أن كل تقنية اتصالية جديدة تُنشئ صورة جديدة للشهرة والتأثير وتقصّي المكانة.
يعني هذا ببساطة أن معلّقات الشعر الجاهلي، كما الكتب التي ازدهرت في عصر اختراع المطبعة، والمحتوى الذي ذاع في وسائل الإعلام الجماهيرية، كلها كانت تقنيات اتصال أنشأت آليات لقياس الشهرة والتأثير وتعيين المكانة، بينما تأتينا تقنية الاتصال السائدة اليوم مُجسدة في وسائط «التواصل الاجتماعي» بخيار جديد أكثر مطاوعة لقياس التراتبية، وأشد تدليلاً على ما تفرزه من «مكانة»، لكنه أكثر قابلية للخطل والتلاعب.
تجتهد تلك الورقة في أحد أهدافها لرصد ما وصفته بـ«ديناميكيات خلق الشهرة والمكانة الرقمية»، وتصنف اللاعبين في ميدان السعي إلى المكانة إلى مشاهير صغار (مايكرو)، ومشاهير كبار (ماكرو)، وصولاً إلى المشاهير الأضخم (ميغا)، كما تُعين مقداراً يُقاس بعدد المتابعين والمتفاعلين على الأقنية الجديدة يمكن ببلوغه الانتقال من تصنيف إلى آخر.
يعني تحقيق رقم معين من المتابعين والمتفاعلين والمعجبين في مضمار السعي إلى المكانة الرقمية تجسيداً مُحكماً وحاكماً لشهرة اللاعب، وهو أمر ينعكس تلقائياً في النفوذ والمكانة وتحقيق العوائد المالية، ويعني هذا بالضرورة خوض منافسات ضارية لتحقيق الصعود، الذي سيتحقق فقط عبر إدراك تلك الديناميكيات وإتقانها.
سيفسّر لنا هذا أسباب هذا الصراع المرير الذي يخوضه اللاعبون المتنافسون في شتى المجالات على حصد الأرقام الدالة، وسيفسر لنا أيضاً أسباب انتقال القادة ورجال الأعمال والفنانين والرياضيين البارزين إلى عالم وسائل «التواصل الاجتماعي»، وتخصيصهم جزءاً كبيراً من مواردهم وطاقاتهم للتمركز والنمو والصعود فيه.
وبموازاة انتقال الزخم إلى عالم «السوشيال ميديا»، ستفقد تقنيات الاتصال الأخرى أهميتها وأسباب وجودها، وستركز الأنظار فقط على هذا العالم الجديد، بوصفه «مُختبر المكانة المعاصر».
أما الإشكال فسينشأ لسببين؛ أولهما أن تلك الوسائط تعيّن المكانة وفق حجم التفاعل بصرف النظر عن منظوره وقيمته، وهنا سيربح المتنطعون وشذاذ الآفاق أيضاً، وثانيهما أن أولئك الذين ينطوون على القيمة قد يخرجون من التصنيف إذا لم يسرعوا إلى التمركز في هذا العالم العشوائي والمضطرب وفاقد العدالة. وأما الفرصة السانحة، فتكمن في ضرورة أن يجد أصحاب القيمة سبلاً للدخول إلى هذا العالم الجديد والتمركز فيه من دون التفريط في الأسس والمعايير التي صنعت مكانتهم في عالم ما قبل الرقمنة.