فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الليبرالية الجديدة وعبء «نظام التفاهة»

لم تبدُ التفاهة يوماً مشكلة بحد ذاتها، فهي جزء من المجال العام، ولها وجوهها المتعددة، ومن التفاهة ما هو ضروري، وبخاصةٍ ما يرتبط بالجماليات الفاقعة، أو التهريج الحي، أو العروض البهلوانية. إنها تضفي على الواقع لوناً آخر. وإذا كان هيغل يقول في قاعدته الشهيرة: «وجود (الغير) = ضروري»، فإن وجود التفاهة ضروري أيضاً، لا يمكن تصور شكل المجال العام من دون الترحيب بنسبةٍ معقولةٍ من التفاهة، فالبشر ليسوا على مستوى واحد من التفوق المهني والعقلي والنفسي والعلمي، ولذلك فإن التافه جزء من المجتمع، وله حرية ممارسة تفاهاته ما دام لم يخرق القانون، وعلينا الاقتناع بأن نسبةً من التفاهات والتافهين لا بد أن نحتملهم في هذا العالم.
تبدو المشكلة أكثر تعقيداً حين تشيد التفاهة لحالتها نظامها، ويتحول ذلك النظام إلى شبكة مسيطرة ومهيمنة على كل شيء، تصبح تياراً جارفاً لا يُبقي ولا يذر. إن الاعتراض ليس على التفاهة بحد ذاتها، وإنما على «نظام التفاهة» كما هو عنوان كتاب آلان دونو، وقد استعرضت بعضه من قبل في مقالةٍ عنونتها بـ«مع آلان دونو حول (نظام التفاهة)» نشرت في 30 يناير (كانون الثاني) 2020، واختصرت مضمون الكتاب بقول المؤلف: «إن (وظيفة التفاهة) تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلاً من التفكير... النظر إلى ما هو غير مقبولٍ وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري. إنها تحيلنا إلى أغبياء. فحقيقة أننا نفكر في هذا العالم باعتباره مجموعة من المتغيرات المتوسطة أمر مفهوم، وأن بعض الناس الذين يشابهون هذه المتوسطات إلى درجة كبيرة هو أمر طبيعي، ومع ذلك؛ فإن البعض منا لن يقبل أبداً بالأمر الصامت الذي يطلب من الجميع أن يصبحوا مماثلين لهذه الشخصية المتوسطة» (ص 85).
أعود لنقاش الموضوع بعد الاطلاع على دراسةٍ مهمة بعنوان «عصر التفاهة، والمجتمع الإنساني البديل» للمصطفى رياني، نشرها موقع «حكمة»، يعتبر الباحث أن «البدائل الحتمية لنظام التفاهة تقتضي عودة المثقف إلى الفضاء العمومي لجعله مجالاً للحوار والتواصل ومقارعة الأفكار والبرامج التي تساهم في بناء المواطن والرأي العام وقضاياه المصيرية كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الأفراد والجماعات والمساواة والسلطة وتوزيع الثروة. فالمواطنة لم تأتِ من فراغ، بل هي سيرورة متوالية الحلقات، أفضت إلى ما هو عليه الآن المجتمع الأوربي والمجتمعات المتقدمة بشكل عام من حقوق ومكتسبات وواجبات للمواطن داخل المجتمع، بالرغم من التراجع والجزر الذي تعاني منه حالياً».
اليوم، يحفز نظام التفاهة جموع الناس لاحتقار الجدّي من الأنشطة، أو العميق من العلوم والأعمال. على مستوى العلم ثمة احتقار عام للمعرفة وسبلها من مقالاتٍ رصينة، وأبحاثٍ جادة، وكتب قيمة، جانحين نحو التغريد الهش، والمحتوى الهزيل، والساذج من الاهتمامات والنقاشات. أما على مستوى العمل، فإن الثراء الفاحش والسهل والسريع الذي يحققه نجوم السوشيال ميديا خفّض من مستوى الشغف لدى الجيل الحالي نحو عوالم العمل والكفاح، إذا كان النجم يحقق بإعلاناته الملايين بثوانٍ معدودات، فإن شوَهاً عملياً سيحدث لدى عموم المتابعين.. هنا يبدو توحش نظام التفاهة حيث التشويه العام لمستويات أساسية لخلق مجتمعٍ صالح، وعلى رأسها العلم والعمل.
على مستوى آخر؛ ثمة محاولات قديمة لربط بعض السلوكيات والتحولات بإحدى الفلسفات. على سبيل المثال في أوائل الألفية طرح البعض علاقة جائرة بين «فلسفات ما بعد الحداثة» و«الليبرالية الجديدة»، وقد التقيتُ مرةً الفيلسوف مطاع صفدي وكان مرتاعاً من هذا الربط باعتباره المترجم الرئيسي لفلسفات ما بعد الحداثة. ومؤسس «مشروع مطاع صفدي» لترجمة الينابيع، وصديقاً شخصياً لجيل دلوز، ومترجم كتابه «ما هي الفلسفة؟»، كان يعتبر هذا الربط بين المجالين، ما بعد الحداثي، والليبرالية الجديدة (وبخاصةٍ في مستواها السياسي) ليس ربطاً فلسفياً، بل مجرد عمل صحافي، كما رُبطت ممارسات قبيحة لدى بعض المراهقين الفرنسيين بالوجودية في منتصف القرن العشرين، وقد كتب أنيس منصور كتيباً لطيفاً عن هذا بعنوان «الوجودية».
ولا أعرف سبب ربط الباحث بين التفاهة وموضوع الديموقراطية والدولة الوطنية، إلا أنه اختارها وسيلةً لمزج بين التفاهة، و«النيوليبرالية» حين يقول: «أصبح واقع التفاهة ونظامها المعولم يفترض بناء الدولة الوطنية الديمقراطية على أساس المصلحة الوطنية واقتصادها الوطني والعلاقات المتكافئة والمتوازنة مع باقي دول العالم، وهذا لن يتأتى إلا عن طريق التكتل والاندماج الإقليمي والجهوي للتكامل الاقتصادي. فالتكتلات الاقتصادية قادرة على فرض كلمتها وإرادتها السياسية والاقتصادية في نظام العولمة، إن استطاعت أن تطور مشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يكون مدخله البناء الديمقراطي الوطني للتخلص من نظام التبعية الاقتصادية للنظام النيوليبرالي العالمي ونظام التفاهة الذي أنتجه في العالم، والذي يتسبب في تعميق واقع الأزمة الشاملة في المجتمعات وخلق التوترات الاجتماعية عبر تعميق الفوارق الطبقية والمجالية التي تعيق فرص التنمية والتقدم والتطور لبناء القيم الإنسانية الحقيقية».
إنني أختلف مع الباحث المصطفى رياني، الذي كتب في خاتمة بحثه: «لقد تمكن النظام النيوليبرالي العالمي من إنتاج أسوأ ما يمكن تصوره، وهو نظام التفاهة الذي سيظل ملازماً له، يعبر عن هويته البنيوية الحقيقية والمأزومة ما دامت المجتمعات والشعوب لم تراجع حساباتها لتمتلك وعياً بديلاً يخلصها من شروط الرداءة المعمّمة، التي تنتج البؤس والتخلف والانحطاط في واقع أصبح المواطن ضحية العولمة وتفاهتها المدمرة».
نظام التفاهة أكثر كثافةً وسيطرةً من أن يربط بفكرة الذروات الليبرالية المتجددة، إن التفاهة حدث متوسط بين الانهيار المجتمعي العام، وبين الثورة المعلوماتية الضارية، والتفاهة ترتبط بالفوضى البدائية الهمجية، أكثر من ارتباطها بانفلات الحرية، أو تشكل ذروات قصوى لليبرالية الجديدة، هذه نقطة الاختلاف مع الباحث. أما التحدي اليوم فيقع على عاتق الجميع للإجابة عن هذا السؤال؛ كيف يمكن للفرد النجاة بنفسه من قبضة نظام التفاهة؟!