نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

لا تختبئوا وراء {كورونا}

حين خصصت «المفوضية المتوسطية للتنمية المستدامة» اجتماعها السنوي لبحث انعكاسات «كورونا» على برامجها في دول حوض البحر المتوسط، انتظرنا أن تُظهر الأرقام تراجعاً في مؤشرات لنتائج جيدة نجحت دول المنطقة في تحقيقها قبل الجائحة. المفاجأة كانت أن التقصير في تحقيق الأهداف سبق وصول الجائحة بوقت طويل.
صحيح أن آثار «كورونا» على الصحة والاقتصاد عرقلت التقدم في تحقيق كثير من أهداف التنمية وحماية البيئة لأنها خلقت أولويات أخرى، لكن التقصير سبق الجائحة، وسيستمر بعدها، ما لم يبدأ العمل سريعاً على معالجة مسبباته الأساسية.
قياس التقدم المتوسطي يرتكز إلى استراتيجية للتنمية المستدامة وضعتها المفوضية، حددت أهدافاً للتحقيق خلال فترات زمنية متلاحقة تتيح فرصة المراجعة والتصحيح. وقد تبين من الدراسات التي قُدِّمت إلى الاجتماع أن الوضع شهد تراجعاً في معظم الحالات، وتقدماً طفيفاً في حالات قليلة غيرها. كما برز التفاوت الكبير بين دول حوض المتوسط الأوروبية على الجانب الغربي، وتلك الواقعة على الضفة الجنوبية - الشرقية. ولا تقتصر أسباب التقصير على التفاوت في حجم التمويل المُتاح بين الدول الغنية والفقيرة، إذ تبين أن السبب الرئيسي وراء إخفاق الدول المنخفضة الدخل هو ضعف الحوكمة السليمة، وغياب التخطيط الملائم وآليات المراقبة والمحاسبة، مما يؤدي إلى انتشار الهدر والفساد.
وحوض المتوسط هو المنطقة الأكثر استقطاباً للسياح في العالم، حيث ازدادت أعدادهم 6 أضعاف خلال السنوات الخمسين الأخيرة. ويعيش ثلث السكان في المناطق الساحلية، مما يتسبب في ضغط كبير على البيئة البحرية التي تتلقى نفايات متعددة الأنواع، بينها 730 طناً من البلاستيك يومياً. وشهدت درجات الحرارة في حوض المتوسط معدلات ارتفاع تجاوزت المعدل العالمي بنحو مرة ونصف. وبين التحديات الكبرى التي تواجهها أجزاء واسعة من المنطقة ندرة المياه العذبة، وهدر كميات كبيرة من الموارد المائية المحدودة في الممارسات الزراعية غير ذات الكفاءة. ويؤدي البطء في التحول إلى الطاقة النظيفة والمتجددة، وعدم اعتماد الكفاءة في الإنتاج والاستهلاك، إلى ارتفاع الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء المرتبط بمحطات إنتاج الكهرباء ووسائل النقل. ويتجاوز عدد الوفيات المرتبطة بتلوث الهواء في بلدان حوض المتوسط الجنوبية - الشرقية 230 ألف سنوياً. كما بينت الدراسات المقارنة أن مساحة الغابات تتضاءل، وصيد الأسماك يزداد، بنسبة تتجاوز قدرة المتوسط على إعادة تجديد ثروته البحرية.
وقد خلُص تقرير جديد عن وضع البيئة والتنمية في المتوسط، عُرِض في الاجتماع، إلى أن «المنطقة ليست على الخط الصحيح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة». وبدلاً من عرض أثر «كورونا» في مفاقمة هذا الوضع، تمنى واضعو التقرير أن تساهم البرامج والمشاريع التي بدأ إقرارها لما بعد الجائحة في دفع التحول نحو «النمو الأخضر». وهذا اعتراف صريح بالإخفاق في تحقيق أهداف الاستراتيجيات المعلنة، والتعويل على الصدمة التي أحدثتها الجائحة في إعادة البناء على أساس جديد، كأننا ننتظر أن نحل مشكلات التقصير في بلوغ أهداف التنمية البيئية عن طريق التدابير الطارئة لمعالجة آثار «كورونا»، وليس العكس.
وقد بيَّن تقرير عرضه المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) في اجتماع المفوضية المتوسطية أن جائحة «كورونا» كشفت ضعف أنظمة الرعاية الصحية في المنطقة العربية من حوض المتوسط، لكنها لم تتسبب بها، كما فضحت القدرة المتواضعة للبلدان في التعامل مع كارثة صحية طارئة. وبغض النظر عن «كورونا»، فقد قدرت دراسة «أفد» أن 700 ألف من سكان الجانب العربي للمتوسط خسروا حياتهم قبل الأوان عام 2020 بسبب التعرض لأخطار بيئية. وأبرز الأمراض ذات الارتباطات البيئية في المنطقة تتعلق بانسداد الشرايين والالتهابات التنفسية والإسهال والسرطانات، وذلك بسبب تلوث الهواء والمياه والبحار، إلى جانب تدهور نوعية الأراضي الزراعية، والتعرض للنفايات الكيميائية السامة. واقترحت الدراسة أن يعتمد وزراء الصحة والبيئة نهجاً مشتركاً للتخفيف من مسببات الأمراض ذات الأساس البيئي التي يمكن تجنب معظمها. ومن الأولويات تحسين نوعية المياه والهواء عن طريق وضع معايير صارمة وتطبيقها، والإدارة المتكاملة للنفايات، وإجراءات للتعامل مع الآثار الصحية لتغير المناخ. كما أوصت الدراسة برعاية البيئة البحرية وتنميتها، بما يحمي صحة الناس، ويحافظ على نوعية الغذاء البحري.
لا نحاول هنا التخفيف من الآثار المباشرة للجائحة على النظام الصحي والأوضاع الاقتصادية، فقد أظهرت الأمم المتحدة أن «كورونا» تسبب بخسارة البلدان العربية عام 2020 أكثر من 40 مليار دولار من ناتجها القومي، وفقدان أكثر من مليوني وظيفة، مع تقلص في حجم الطبقة الوسطى، ودخول 10 ملايين شخص جديد في حلقة الفقر والجوع. وفي حين تفاوت حجم الحوافز الاقتصادية الطارئة بين دولة عربية وأخرى، فمعظمها كانت استجابة طارئة محددة، عن طريق تدابير دعم مباشرة وحوافز مادية قصيرة الأجل، لم تصل -إلا في حالات قليلة- إلى مصاف خطة الإنقاذ التي تؤسس لإطلاق برامج تنمية أكثر توازناً. وقد حقق بعض هذه التدابير نتائج عكسية، مثل إعادة الدعم على أسعار الكهرباء والماء في بعض البلدان، في صورة مساعدة اقتصادية عاجلة. لكن تدبيراً كهذا يهدد بخسارة الفوائد التي تحققت في السنوات السابقة في مجال تعزيز كفاءة استهلاك الطاقة والمياه نتيجة الرفع التدريجي للدعم، واعتماد سياسة تسعير واقعية.
ومن المؤكد أن ضعف مصادر التمويل في بعض البلدان هو أحد عوامل البطء في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لكن مناقشات المفوضية المتوسطية بيَّنت أن المسببات الأساسية للتقصير هي ضعف المؤسسات الحكومية، وعدم فاعلية القطاع العام، وعشوائية التخطيط، إلى جانب الحروب والنزاعات، وغياب الأمن والسلام في أجزاء كبيرة من المنطقة.
والموازنات الضخمة التي خصصتها الدول الغربية لخطط التعافي، في صورة موازنات وطنية ومساعدات خارجية، تُشكِّل فرصة للانتقال إلى تنمية أكثر استدامة، لكن هذا لا يتحقق إلا بموازاة تغيير جذري في السياسات العامة، ووضع خطط ملائمة يخضع تنفيذها للمساءلة والمحاسبة.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»