داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

«كان ياما كان» قبل ثلاثة عقود

لا تتوقف شهية المؤرخين والسياسيين والقادة العسكريين والإعلاميين عن كشف أسرار الحروب التاريخية. لكن شهية هؤلاء الباحثين الجادين لا تكفي. التاريخ في حاجة إلى شهود عيان على ما جرى. معظم رؤساء الحكومات كتبوا عن حروب خاضوها. وكذلك فعل وزراء الدفاع ورؤساء الأركان وقادة سياسيون وعسكريون. كلهم كتبوا عن أسباب الحروب التي خاضوها ومجرياتها ونتائجها. ودائماً في الحروب تكلفة الدم والأرواح باهظة. ومنذ سنوات قال إعلامي عربي راحل: «الحروب تدور في مجال السياسة، ومشاهدها الأخيرة فقط هي التي تنتقل إلى ميادين القتال». بينما قال الرئيس الأميركي إبراهام لينكولن: «ليست هناك طريقة مشرفة للقتل، ولا طريقة لطيفة للتدمير، ولا خير في الحروب، إلا نهايتها».
قبل ثلاثة عقود حدثت أزمة الكويت وغزو القوات العراقية للأراضي الكويتية في 2 أغسطس (آب) 1990. كان يوماً ساخناً جافاً كئيباً من أيام الصيف في المنطقة، لكنه كان اليوم الذي سبق العاصفة، ولذلك أطلق التحالف الدولي على تلك الحرب تسمية «عاصفة الصحراء». دخل العراق إلى الكويت. العالم يقف على رأسه من هول المفاجأة. صحيح أن العلاقات العراقية - الكويتية لم تكن في أحسن أحوالها، إلا أن مفاجأة الاحتلال أكبر من أن تقارن بأزمة أو مشكلة أو احتكاك حدود.
ما الذي حدث؟ لقد صدرت كتب كثيرة باللغات العربية والأجنبية عن دخول العراق للكويت. ومعظم هذه الكتب يحمل عنوان «عاصفة الصحراء». عراقياً سبق أن صدر كتاب «في مرمى النيران» تأليف السفير العراقي السابق الدكتور نبيل نجم، وتناول بشكل تفصيلي محاولات الرئيس المصري الراحل حسني مبارك لدفع العراق إلى الانسحاب الفوري من الكويت لتفادي الحرب ضد القوات العراقية التي دخلت الأراضي الكويتية. وفشلت المحاولة المصرية.
وبين يدي الآن كتاب جديد عن محاولات عربية ودولية للتوسط وإقناع العراق بسحب قواته، من تأليف السفير العراقي السابق الدكتور نديم أحمد الياسين رئيس دائرة التشريفات في الرئاسة العراقية. عنوان الكتاب «40 عاماً مع صدام حسين» وصدر في العاصمة الأردنية عمان حديثاً. وبحكم منصبه كان السفير نديم شاهد عيان على كل ما كَتب عنه، وهو ما يمنح الكتاب مصداقية ودقة في الأسماء والتواريخ ومحاضر الجلسات، ومعظم ما ورد فيه جديد ويُنشر لأول مرة. ولذلك سأركز على بعض المعلومات الجديدة التي سجلها الدكتور نديم الياسين عن لقاءات الرئيس العراقي مع الملك حسين عاهل الأردن، والرئيس اليمني علي عبد الله صالح، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة خافير بيريز دي كويلار ورئيس الوزراء السوفياتي الأسبق يفغيني بريماكوف.
بذل الملك حسين قبل دخول القوات العراقية إلى الكويت، جهوداً كبيرة لتنفيس الأزمة وتطويقها لكي لا تنفجر. وتدخل مروان القاسم وزير الخارجية الأردني ليقول «إن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي إذا قام العراق بأي عمل عسكري ضد الكويت». وأضاف محذراً أن المسألة ليست قتالاً عادياً أو حرباً تقليدية، فالأميركيون سيضربونكم من دون أن تشاهدوهم. لن يكون هناك قتال رجل أمام رجل. ستضرب أميركا بعيداً عن مدى دفاعاتكم، كما ستطلق بوارجها وغواصاتها صواريخها من البحار القريبة أو البعيدة عن العراق».
بعد يومين من دخول القوات العراقية وبدء الحرب، وصل إلى بغداد الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي حاول إقناع الرئيس العراقي بالانسحاب من الكويت. فرد عليه صدام: «لو كان لدينا خيار آخر لما دخلنا الكويت».
أما المملكة العربية السعودية، فقد اتصل الملك الراحل فهد هاتفياً، بعد مهاجمة القوات العراقية الكويت، ويقول الملك فهد إنه اضطر أن يتصل تليفونياً بالسفارة السعودية في الكويت لمعرفة ما يجري. وأخبره المسؤولون في السفارة بأن الجيش العراقي يحتل الكويت الآن. ويقول الملك إنه حاول أن يتصل بالرئيس صدام في لحظتها، ولكن ما أمكن ذلك. فقد اعتذر المسؤولون الذين ردوا على الهاتف بأن الرئيس صدام في مكان بعيد، وحاولوا أن يصلوه به، لكن الاتصال لم يكن مركزاً.
وكان الرئيس المصري حسني مبارك قد زار بغداد في يوليو (تموز) قبل الحرب، وحاول نزع الفتيل إلا أنه لم يوفق. فزار الكويت ولم يستطع الحصول على أي وعد كويتي للاستجابة للمطالب العراقية. ثم أرسل مبارك مستشاره السياسي الدكتور أسامة الباز إلى بغداد حاملاً رسالة خاصة إلى الرئيس العراقي الذي اجتمع به فور وصوله من دون حضور أي مسؤول مصري أو عراقي. وخرج الباز من اللقاء قلقاً ولم تبدُ عليه أي علامة عن قرب انفراج الأزمة.
في يوم 9 أغسطس (آب) بعد أسبوع من دخول القوات العراقية إلى الكويت وصل إلى بغداد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. يقول الدكتور نديم الياسين إن عرفات «كان مرعوباً وهلعاً مما يحدث، فيما كان صدام هادئاً مبتسماً ويلقي بعض الطرائف أحياناً». وبادر عرفات إلى مخاطبة صدام: «إن خروجكم من الكويت هو انتصار وليس هزيمة أو تراجعاً. أناشدك أيها الأخ الرئيس أن تتخذ القرار الشجاع وتسحب الجيش العراقي. نحن نقبل بالتضحية بقضية تحرير فلسطين في هذه المرحلة من أجل أن يبقى العراق سالماً معافى». بعد صمت قصير، قال صدام: «لا تخف يا أبا عمار. نحن غير خائفين». قاطعه عرفات قائلاً: «إن قوى العدو هائلة ولا أعتقد أن للعراق قدرة على مواجهة الآلة الحربية الأميركية المدمرة...».
يقول الدكتور نديم أحمد الياسين: «رأيت بوضوح دموع ياسر عرفات تغمر عينيه. لم يقل شيئاً، استقل سيارته وغادر، بينما كان الرئيس صدام يلوح له بيده مودعاً».
كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران يريد استخدام الطرق السلمية كلها قبل المشاركة في الحرب على العراق، فدعا الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الحين خافيير بيريز دي كويلار إلى الذهاب إلى بغداد لإقناع القيادة العراقية بفكرة الانسحاب. ويقول الدكتور نديم الياسين: «إن الرئيس الفرنسي أراد أن يستكشف ما إذا كانت لدى صدام المرونة الكافية لتقبل مبدأ الانسحاب، أم لا، وتالياً سيكون ذلك فرصة لميتران أن يزور بغداد وينجح في مهمته». وصل دي كويلار إلى بغداد واجتمع مع الرئيس العراقي. وشرح الأمين العام خطورة الوضع وضرورة التزام العراق تنفيذ قرارات مجلس الأمن من دون شروط و«إنني جئتُ بمهمة خاصة ومحددة، وهي أن أتأكد ما إذا كنتم مستعدين للانسحاب، أم لا. لذلك أرجو أن تسمحوا لي أن أوجه لكم سؤالاً واحداً ومباشراً: هل أنتم مستعدون للانسحاب من الكويت؟»، رد صدام: «سيادة الأمين العام... لا يوجد ما هو مستحيل. كل شيء ممكن. أنا أجبتك بوضوح وصراحة وقلتُ لك ما لم أقله لغيرك حتى الآن. نعم كل شيء ممكن إذا حسنت النوايا وليس هناك مستحيل». وهذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها الرئيس صدام مع أحد زائريه عن إمكانية الانسحاب، ما قد يشكل انفراجاً هائلاً في الأزمة ويهدئ طبول الحرب وقرقعة السلاح.
بعد ساعات وصل دي كويلار إلى باريس، وصرح «بأن مهمته قد فشلت، وأن الرئيس صدام يرفض الانسحاب من الكويت!»، وألغى ميتران فكرة زيارة بغداد، وبدأت «عاصفة الصحراء».
كان آخر الزوار والوسطاء في هذا الظرف العسير رئيس الوزراء السوفياتي السابق يفغيني بريماكوف، حيث وصل في 11 فبراير (شباط)، خلال قصف العراق، وحمل إلى موسكو موافقة الرئيس صدام على الانسحاب.
قديماً قال أحد الحكماء: «إنني أُلقي بنفسي وسط المأزق، ثم أفكر بعد ذلك في إيجاد الحلول».