بول كروغمان
اقتصادي اميركي
TT

إمبراطورية ماساتشوستس!

منذ وقت ليس بالبعيد، تلقيت نسخة من كتاب «معهد ماساتشوستس للتقنية وتحول الاقتصاديات الأميركية»، وهو مجموعة من المقالات حول كيف أصبحت الاقتصاديات الأميركية نموذجا رياضيا بعد الحرب العالمية الثانية، وعن الدور الخاص الذي اضطلعت به المؤسسة التي بناها بول صامويلسون. وضم الكتاب الكثير من المعلومات التي لم أكن على معرفة بها، رغم السنوات الكثيرة التي قضيتها في المعهد طالبا بادئ الأمر، ثم عضوا في هيئة التدريس؛ لذا وجدت الاطلاع على هذا الكتاب ممتعا.
ومع ذلك، لم يغطِ الكتاب بالفعل سوى الفصل الأول من ملحمة معهد ماساتشوستس. وبينما يلمح الكتاب للدور الذي اضطلع به خريجو المعهد في عالمنا اليوم، فإنه توقف في تناوله عند قرابة عام 1970. وأعتقد أنه من المثير - بل والمهم - الحديث عما شهده العقد التالي.
وتدور الفكرة الرئيسية في هذا الصدد حول أنه بينما ظهرت الكثير من المقالات تتناول، إما بالمدح أو الذم، تأثير هذا المعهد، فإن القليل انتبه لحقيقة أن عددا كبيرا في الوقت الراهن ممن يعتبرون خبراء اقتصاديين محترفين، إما يضطلعون بأدوار مهمة في صياغة السياسات، أو يبدو أن لهم تأثيرا على مناقشتها، نالوا درجة الدكتوراه من المعهد خلال النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي. وفيما يلي قائمة غير مكتملة وبها تواريخ الحصول على الدكتوراه:
بن بيرنانكي: 1979.
أوليفر بلانشارد: 1977.
ماريو دراغي: 1977.
بول كروغمان: 1977.
موريس أوبستفيلد: 1979.
كينيث روغوف: 1980.
وخلال الفترة ذاتها، كان لاري سمرز في جامعة هارفارد، لكن كانت قد سبقت له الدراسة في معهد ماساتشوستس، وكذلك الحال مع قطاع عريض من النخبة المثقفة. والملاحظ أيضا أن جميع من وردت أسماؤهم بالقائمة تقريبا درسوا مع ستان فيشر، الذي ما يزال عنصرا مؤثرا في صناعة السياسات.
وقد تتساءل: كيف تبدو هذه القائمة لدى مقارنتها بقوائم مشابهة لجامعات ومعاهد أخرى، داخل شيكاغو تحديدا؟ الإجابة التي أراها أنه لا مقارنة. ورغم أن النظرية الكينزية للاقتصاد الكلي الشائعة بين الواردة أسماؤهم في هذه القائمة ليست مطلقة في عالم الواقع، فإن المناهضين لها لا يلجأون عادة للخبراء الاقتصاديين طلبا للتوجيه.
إذن التساؤل هنا: كيف تمكن معهد ماساتشوستس من نيل هذه المكانة الفريدة داخل الحقل الأكاديمي الاقتصادي المرتبط بصنع السياسات؟
حسنا، مثل هذا التساؤل ينبغي التعامل معه من قبل مؤرخ محترف معني بتاريخ الفكر، أو على الأقل شخص يملك الوقت والرغبة في البحث عبر كثير من السجلات، وعقد مقابلات، وما إلى غير ذلك. من ناحية أخرى، لقد كنت هناك في هذا المعهد، لذا ربما يمكنني عقد مقابلة مع نفسي وتسليط بعض الضوء على الإجابة.
ما أتذكره الآن أن الروح السائدة بالمعهد فيما يخص علم الاقتصاد، خلال السبعينات لم تكن تتسم بإمبريالية فكرية. داخل شيكاغو، كان لديهم قناعة بأنهم وحدهم يملكون «الحقيقة»، وما عداهم من وجهات نظر ليست سوى ترهات ينبغي الإلقاء بها إلى مزبلة التاريخ.
أما داخل معهد ماساتشوستس، الذي لعب دورا أكبر بكثير في نقل فكر كينز إلى الولايات المتحدة، فكان هناك كثير من المجهود البحثي والشك الذاتي، بل وربما كانت هناك مؤشرات بعيدة تنبئ بشعور بعقدة دونية.
كان كل شخص يعكف على وضع توقعات منطقية بطريقته.. أوليفير وأنا عملنا على وضع نموذج رياضي للصدمات المتوقعة خلال فترة تناول الغداء. ومع ذلك، كانت هناك وجهة نظر سائدة ترى أن فكرة تحقيق المرونة المثالية للأسعار حلم بعيد المنال. وأشك أن رودي دورنبوش كان له تأثير مهم هنا، ومثلما سبق لي ولآخرين القول مرارا، فإن مجرد النظرة العابرة على الدلائل المرتبطة بمعدلات الفائدة والأسعار تكشف مستوى الجمود القائم، وهذا هو السبب وراء عدم تعمق علم الاقتصاد الكلي الدولي، على خلاف الحال مع باقي عناصر الحقل الاقتصادي.
وكانت النتيجة أن علم الاقتصاد الكلي داخل معهد ماساتشوستس تطور كثيرا؛ حيث تعلم الجميع كيفية كتابة نماذج التوقعات المنطقية وحلها، وتعلم الجميع كيفية محاكاة حواريي لوكاس، لكنهم لم يغفلوا في الوقت ذاته رؤية كينز. وعليه، طور طلاب المعهد أسلوبا هناك من يراه براغماتيا بصورة رائعة، بينما يراه آخرون مفتقرا إلى الحياة بصورة مزرية، حسب تباين الأذواق.
لقد كانت النماذج المستقاة من مؤسسات الاقتصاد الجزئي هي الهدف دوما، لكن عندما كان يظهر تعارض واضح بين ما تنبأت به النماذج وواقع التجربة العملية، كنا نفرض السلوك الواقعي على الموقف ونترك مسألة طرح تفسير نهائي للأمر للمستقبل. ومن بين الأمثلة على هذا الأسلوب النموذج الذي صاغه رودي للخروج بتوقعات منطقية في سوق العملة، مع الاهتمام بجمود الأسعار الخاصة في الأسواق الجيدة، وكذلك الحال مع التحليل الذي وضعته لشرك السيولة باستخدام توقعات منطقية للتفكير بخصوص الطلب والمال، لكن مع افتراض جمود على المدى القصير للحصول على تأثير حقيقي.
وأعتقد أنه من الواضح لماذا كان هذا التوجه أفضل لإنتاج محافظين مستقبليين للمصرف المركزي وخبراء اقتصاديين بارزين، من التوجه الآخر الذي أولى صفاء النظرية أولوية عن الواقعية. وبالفعل مر فكر الاقتصاد الكلي المعتمد على رؤى كينز وهيكس بست سنوات جيدة للغاية؛ حيث اتخذ مواقف صائبة تجاه التضخم ومعدلات الفائدة والتقشف. وأثبت أسلوب معهد ماساتشوستس نجاحه المذهل تحليليا وعمليا. إلا أنه لم يحقق سياسيا، بطبيعة الحال، القدر ذاته من النجاح، وهو أمر مفهوم لأنه لا يمكن للمرء إنجاز كل شيء. والمؤكد أن التمتع ببعض التأثير للأبد أفضل من النسيان الذي غلق رؤى كانت تملك يوما من الأيام الهيمنة الكبرى على الساحة.

* خدمة «نيويورك تايمز»