جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

الفلسطينيون في اختبار الإرادة

تحطمت أحلام بنيامين نتنياهو على صخرة المصالح العالمية الكبرى، أثار الفتنة فاكتوى بنيرانها، خرج عن قضبان السلطة، وجلس في ضيافة الندم بسبب غطرسة ألقت به خارج المشهد.
ثمة تغيير واضح في المزاج العام العالمي، جلبة إقليمية ودولية وعالمية، كلٌ له مصالحه، سيتوقف التاريخ بعمق أمام حرب الثامن من «مايو (أيار)2021»، لا إمكانات دون إرادة، القضية الفلسطينية صارت في الواجهة من جديد، قطار الحسم تحرك ولن يعود، مساحات جديدة يكسبها الشعب الفلسطيني، الإرادة المصرية حاضرة منذ الساعات الأولى لهذه الحرب، القاهرة تتحدث، لا بديل عن دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، استلهام روح المبادرة العربية للسلام عام 2002، ضرورة واجبة. تحويل الأزمة إلى فرصة، مسعى تؤكده تحركات القيادة السياسية المصرية، الوصول إلى الحل ورقة استقرار للشرق الأوسط، وطريق دولية للخروج الآمن.
تحركات الرئيس عبد الفتاح السيسي، منذ اللحظة الأولى، جعلت من القاهرة بوصلة العالم نحو هذه القضية.
«النسيان هو تدريب الخيال على احترام الواقع»، مقولة الشاعر الفلسطيني محمود درويش لم تعد مناسبة لحسابات الرئيس الأميركي جو بايدن، وقد حاصرته المظاهرات، ولم تعد قادرة على إقناع الجناح اليساري من الديمقراطيين الرافض - وفقاً لقناعاته الخاصة - الصلف الإسرائيلي. هذه المرة لم نعد نردد: عام يذهب وآخر يأتي وكل شيء فيك يزداد سوءاً يا وطني، بل وجب علينا أن نردد «أيها المارون بين الكلمات العابرة احملوا أسماءكم وانصرفوا، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا». لا بد أن نكون أمام استراتيجية تحكمها الشرعية العربية والدولية، والتزام واضح بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، طبقاً لدستور دولة فلسطين، ووفقاً للاعتراف الدولي في الأمم المتحدة. ضوء قادم بقوة، سلام مشروع في الطريق، فلسطين تقترب.
ثمة علامات استفهام عديدة تطرح نفسها، كيف يتم البناء على ما حدث، وكيف يتم تحويل هذه الأزمة إلى فرصة حقيقية لمصلحة القضية؟ وما المطلوب من الفصائل الفلسطينية لإحراز تقدم ملموس؟ وإلى أين تواصل القاهرة مسارات التقدم للوصول إلى الأهداف المرجوة التي ليس لها بديلاً؟ إدراك القاهرة هذه اللحظة الجادة وغير المسبوقة، متسق مع دورها المحوري الفاعل عبر التاريخ، العالم احترم جيداً تحركات مصر، أفعالاً وليس أقوالاً. الاتصالات كانت مبكرة منذ اندلاع المواجهات بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطيني لوقف التصعيد وتهدئة الموقف عبر وفود أمنية، وبفتح معبر رفح لأجل غير مسمى، وتقديم مساعدات طبية وصحية، وإمكانات لوجيستية لاستقبال الجرحى والمصابين.
العمق الاستراتيجي للمقاربة المصرية تمثًّل في مبادرة الرئيس السيسي بتخصيص 500 مليون دولار لإعمار غزة. كما أن الإرادة المصرية صاحبها التوفيق في فرنسا، على طاولة المباحثات، جاءت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في لقاء جمع الرئيس السيسي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والملك عبد الله الثاني ملك الأردن، لم تعد هناك رفاهية الصمت على استمرار الدائرة المفزعة من العنف المستعصي، لا بديل عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ووزير الخارجية المصري سامح شكري قالها في جلسة افتراضية أمام جلسة طارئة لمجلس الأمن «لا تنازل عن الحل العادل والشامل لهذه القضية المزمنة».
الحراك الذي تقوده القاهرة يفضي إلى نتائج مغايرة هذه المرة، جميع الأطراف تدرك أن منسوب التأزيم بلغ مداه، وأن هذا الصراع صار عبئاً على القوى الدولية والإقليمية، دون إغفال للمتغيرات داخل المكون الإسرائيلي نفسه، فلم يعد الإسرائيليون يحتملون استمرار الدوائر المفرغة والإقامة في الملاجئ، ارتبكت التركيبة الحياتية لاستقرار المواطن في تل أبيب وعسقلان واللد وأشدود، أطراف القضية لم يعد لديها في قوس الصبر منزع. الإشارات تقول، إن التوقيت مناسب لجلوس المجتمع الدولي على طاولة التفاوض، وإن الذكاء السياسي هو استثمار المناخ الملائم، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، دعوة الرئيس السيسي للفصائل الفلسطينية تضعنا أمام اختبار حقيقي لإرادة ووحدة الفلسطينيين، لا توجد خيارات، الانقسام نهج ثبت فشله، بل إنه شريك رئيسي في عرقلة أي مسارات جادة لمصلحة القضية.
دعوة القاهرة هدفها توحيد الموقف الفلسطيني تجاه إسرائيل، وجعلها صوتاً واحداً أمام المفاوض الإسرائيلي، وقطع الطريق أمام النبرة الإسرائيلية الزاعمة بأن الفلسطينيين أنفسهم غير موحدين، وأن الحكومة الإسرائيلية لا تجد شريكاً واحداً تتفاوض معه حول دولة فلسطين، الرسالة واضحة أمام الفصائل الفلسطينية، إذا توافرت لديهم الإرادة فقطعاً سيعيدون ترتيب الأوراق، وسيفرضون جدول أعمالهم، ليس فقط أمام المجتمع والقوى الدولية، بل إن هذه الوحدة ستكون قوة دفع للعالم العربي في أن يكون شريكاً قوياً في التضامن والانحياز القوى لهذه القضية، سيما أن الجميع يدرك جيداً أنه لن يكون سلام في الشرق الأوسط دون وضع نهاية للقضية الفلسطينية. إذن، الفرصة مواتية، مسارات القاهرة تؤكد دورها المحوري التاريخي، دعم هذه المسارات طوق نجاة، عدم إدراك أهميتها بمثابة خسارة محققة.
في النهاية أقول للعالم العربي، إن الحل القاطع هو إقامة دولة فلسطينية، فدون هذه الدولة تظل المنطقة والشرق الأوسط منقوصة السلام والاستقرار، ومن ثم علينا جميعاً استثمار هذا الظرف المختلف، والإمساك بمفاتيح الحل حتى لا تتحول إلى مغاليق.