ماكس هاستينغز
- رئيس تحرير صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية السابق- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
TT

أميركا ودروس حرب فيتنام الضائعة

بعد أربعة أشهر من الآن، سيكون آخر جندي من الـ2500 جندي أميركي المتمركزين داخل أفغانستان اليوم قد رحل. وسيكون البريطانيون والأستراليون والكنديون وحلفاء آخرون في القارب ذاته، بصورة رمزية على الأقل إن لم يكن حرفياً، بعد أن ضحوا بأرواحهم وكل نفيس وغالٍ في إطار نضال امتد 20 عاماً سعى بادئ الأمر لإطاحة حكومة «طالبان» في كابل، ثم إلى الإبقاء على الأنظمة اللاحقة.
قال الجنرال الأميركي ديفيد بتريوس، بينما كانت القوات الأميركية تحتشد استعداداً لدخول بغداد: «نود أن نشكل وجوداً حميداً ومتواضعاً». وفي كتابه «في رفقة الجنود»، ذكر الصحافي في ريك أتكنسون، الذي كان مرافقاً للفرقة 101 المحمولة جواً تحت قيادة بتريوس، مشهداً لافتاً.
من بين الحشود العراقية، خرج رجل كبير في السن يرتدي جلباباً أبيض وعرف نفسه بأنه عبد الرزاق قصبي، مدرس بمدرسة صدام الثانوية. وقال متحدثاً بالإنجليزية بنبرة رسمية بطيئة، مشدداً على كل مقطع وموجهاً حديثه إلى بتريوس: «سيدي الجنرال، نخشى أنكم ستتحكمون فينا مثلما فعل هو». وبطبيعة الحال، لم تكن هناك حاجة لتحديد هوية «هو» المشار إليه.
ورد بتريوس: «لا. لن نفعل ذلك... وسنريكم هذا في أفعالنا». وعرض على المعلم هدية رمزية تتمثل في عملة نحاسية تذكارية للفرقة، لكن قصبي رفض الهدية بأدب. وقال: «لا أستطيع أن أقبل منكم شيئاً إلا إذا تأكدت أنكم جئتم من أجل شعبنا، فنحن لا نرغب في تبديل شخص سيئ بآخر سيئ».
في الواقع، لم تحدث الإخفاقات في أفغانستان، مثلما الحال في العراق، على امتداد العقدين التاليين داخل ميادين القتال، وإنما نجمت عن العجز عن إقرار نظام حكم محلي مستدام، في إطار جدول زمني مقبول للسياسيين والناخبين الغربيين الذين يفتقدون الصبر على الدوام، يدعم في الوقت ذاته المصالح الغربية.
من جانبه، أدرك بتريوس، الذي يعد الأذكى من بين الجنرالات الأميركيين المعاصرين، منذ لحظة دخوله بغداد، أنه ليس هناك جيش باستطاعته إنجاز مهمة إعادة ترتيب مجتمع ما. الحقيقة أن مهمة بناء الدولة أصعب بكثير من الفوز في المعارك، ونحن لسنا بارعين في هذا الأمر.
من ناحيتهم، يبذل بعض المفكرين الاستراتيجيين المخضرمين بالولايات المتحدة جهوداً دؤوبة لإثبات حجتهم أن حروب القرن الـ21 في مناطق بعيدة لا تربطها أي أوجه شبه بالحرب في فيتنام. وباعتباري من المهتمين بتاريخ الحروب، أختلف مع هذا الرأي، ذلك أنني أرى الكثير من التشابهات، وكذلك الكثير من المقاتلين البارزين.
تتمثل الرسالة الأولى من حرب فيتنام في أن الشماليين لم ينتصروا في هذه الحرب لأنهم كانوا شيوعيين، وإنما لأنهم كانوا فيتناميين، ذلك أن جميع أفراد البشرية تقريباً يتفقون على كراهية أن يترأسهم ويدير شؤونهم أجانب. وطوال سنوات الحرب، كان الفيتناميون مدركين لأنه ليس هناك من أعضاء حكومة سايغون مَن يجرؤ على مغادرة فراشه في الصباح دون إذن من أسياده الأميركيين الذين يدفعون له راتبه. وقد قال أحد أبناء الجنوب يدعى تشاو فات: «كان باستطاعة الشيوعيين تذكيرنا دونما توقف إلى أي مدى من المهين أن يكون المرء محتلاً».
هذه ذات الرسالة التي عملت «طالبان» على مدار السنوات الـ20 الماضية على توصيلها إلى ألف قرية ومدينة أفغانية. وعليه، كان من الضروري أن تبدو الاستجابة من جانبنا قادمة من أوساط السكان المحليين، وليست أجنبية.
في هذا الصدد، أوضح الخبير الأسترالي بمجال مكافحة التمرد، ديفيد كيلكلن، أن «التمرد يستوحي عزيمته وقوته المادية وحرية الحركة وإرادة العمل من اتصاله بالسكان المحليين في منطقة ما، فالمتمردون يستغلون موجة محلية من المظالم، غالباً ما تكون مشروعة».
داخل أفغانستان، يشعر الغربيون بالحنق بسبب اختيار الكثير من المجتمعات المحلية اللجوء لتحكيم محاكم «طالبان» المعتمدة على الشريعة الإسلامية، بدلاً من المحاكم التابعة للحكومة.
وأثناء زيارتي كابل منذ بضع سنوات، تلقيت دعوة لمقابلة وزير بالحكومة، الذي اتضح أنه شاب طموح لديه أفكار رائعة، لكنه قضى الجزء الأكبر من حياته بمنطقة الساحل الغربي بالولايات المتحدة. وأشك أنه يتقن الإنجليزية عن لغته المحلية، الباشتو.
والملاحظ أن الكثيرين من أعضاء الحكومة يحتفظون بجزء كبير من أصولهم خارج البلاد، تحسباً لحدوث أي طارئ يستدعي منهم الفرار بأرواحهم، الأمر الذي يجعلهم غير ملتزمين على نحو كامل تجاه وطنهم.
في فيتنام، كان سكرتير فيتنامي يعمل لدى الوكالة الأميركية للتنمية الدولية يتقاضى أكثر من كولونيل فيتنامي من الجنوب. وتكرر ذلك من جديد في العراق وأفغانستان، فمَن ذلك الذي يرغب في خدمة حكومة كابل، مقابل نسبة لا تذكر من الراتب المتاح أمام مَن يعملون لحساب الأجانب؟ كما أن عدداً ضئيلاً للغاية من الغربيين كان باستطاعتهم التواصل مباشرة مع السكان المحليين.
وأثناء مرافقتي لدورية بريطانية عبر قرية أفغانية باعتباري صحافياً، لم يكن من الصعب رؤية الكراهية في عيون الرجال المحليين التي كانت تراقبنا. في الواقع، بدا الجنود الغربيون الذين يرتدون دروعاً واقية للجسد ونظارات شمسية أقرب إلى الروبوتات عن البشر.
وقد حثثت أحد قيادات الجيش البريطاني على تدريس الباشتو لمزيد من الجنود، لكنه رد على ذلك بأنه من غير المنطقي مقاطعة المسيرة المهنية للجنود لتعليمهم لغة ليس لها تطبيق خارج حدود أفغانستان. في المقابل، نظم الجيش الأميركي برنامجاً نشطاً لتعليم اللغات، ومع هذا لا تزال أعداد الجنود المتمركزين في أفغانستان القادرين على الحديث إلى السكان المحليين قليلة للغاية.
بجانب ذلك، وقعت مذابح لم تثر حين وقوعها اهتماماً كبيراً في بلداننا، لكنها زادت صعوبة بناء علاقات بين الأطراف المختلفة تقوم على الثقة. وتورط أفراد من القوات الخاصة الأميركية والبريطانية والأسترالية في أفعال مخزية، بل ودموية بحق السكان المحليين لم ينالوا العقاب العادل عنها حتى اليوم. ولا أقصد من ذلك الانتقاص من قدر الشجاعة والمهارات التي أظهرها معظم جنود القوات الخاصة الذين أنجزوا أموراً طيبة، لكن ذكريات القتلة تبقى لفترات أطول في أذهان الأفغان والعراقيين عن قصص الأبطال.
الحقيقة أنه ليس بإمكانك التخلص من حركة التمرد من خلال القتل، حتى وإن ظلت بعض أعمال القتل ضرورية للاضطلاع بمجرد جزء في إنجاز نتيجة مقبولة. وتتطلب الاستراتيجية الحصيفة هنا القضاء على أقلية من الأعداء لا يمكن التصالح معهم، مع العمل في الوقت ذاته على إقناع الأغلبية بأنهم سيكسبون المزيد من خلال الحديث والتفاوض أكثر من القتال.
بجانب ذلك، يقضي غالبية الجنود الغربيين في أفغانستان فترة قصيرة للغاية هناك تجعل من المتعذر عليهم إدراك طبيعة المكان أو سكانه. وبينما يكمل الجنود الأميركيون عاماً، فإن الجنود البريطانيين يتناوبون العمل في أفغانستان كل ستة أشهر فقط. وبذلك يقضي هؤلاء الجنود أول شهرين من عملهم في محاولة التعرف على البلاد، بينما يقضون الشهر الأخير في حزم أمتعتهم والاستعداد للرحيل.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»