د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

ملائكة وشياطين!

ربما لا يكون فيما سوف يلي أمر مهم للقراء، وبالتأكيد فإنَّ الاهتمام العربي منصب الآن على ما جرى من حرب في قطاع غزة وتوابعها، والسد الإثيوبي وما سوف يأتي منه. ولأصحاب الظنون فإنَّ الاهتمام بموضوع طلاق «بيل غيتس» و«ميلندا فرنش غيتس» ربما يأخذنا من قضايا الحياة والموت إلى قضية تهم الأغنياء، ولا يجد فيها أصحاب الفكر والعقل ما يجدي. ولكن الحقيقة هي أنَّ الموضوع ليس أمراً عادياً أو روتينياً ينتمي إلى حقيقة الطلاق التي تحدث كل يوم بل وكل ساعة، وربما تدعو إلى الأسف، ولكنَّها ربما تكون موضوعاً لعلماء النفس أو الاجتماع أو الذين يحبون النميمة وتثيرهم موضوعات الشقاق العائلي، المسألة هي أن عائلة السيد غيتس لم تكن أبداً عادية، فعندما يكون ربها أغنى أغنياء العالم وبثروة قدرها 150 مليار دولار ولمدة أربع سنوات متوالية، فنحن لسنا أمام شخصية عادية. وعندما يشكل طرفا العائلة، بيل وميلندا، مؤسسة خيرية ذائعة الصيت في أعمال الخير الممتدة في القارة الأفريقية، والتي يجري فيها محاولة للتخلص من مرض الملاريا، لا نكون أمام أمر معتاد. والحقيقة أنَّ بيل غيتس لم يكن يمثل فقط رجلاً بالغ الغنى، أو أنه أنشأ شركة «مايكروسوفت» التي باتت علامة من علامات عالمنا المعاصر، أو أنه – مع ستيف جوبز – شكلا طليعة للثورة العالمية التكنولوجية الثالثة وما بعدها الرابعة. كل ذلك معلوم، ولكن ما يحتاج وقفة جادة بالفعل فهو أن الرجل بات ظاهرة أكبر من ذلك كله، أصبح مواطناً عالمياً إنسانياً يمثل الجماعة البشرية بكل همومها وأشجانها. وحصل على وسام الملكة البريطانية إليزابيث، وحصل على ميداليات من الرئيس باراك أوباما، وفي جميع أركان الكرة الأرضية وجد من يعطيه وساماً أو نوطاً أو إكليل مجد من نوع أو آخر. وعلى مدار العام الماضي، أعاد مؤسس شركة مايكروسوفت، اكتشاف نفسه كواحد من أوضح الأصوات وأكثرها إنسانية في أميركا بشأن جائحة (كوفيد - 19). وقبلها وبعدها كان من الأصوات التي تصرخ بأعلى صوته الهامس من أجل التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري في الكوكب. من ناحية كان الرجل يمثل «العقل» و«العلم» في أنقى صورهما، هو دائماً هادئ ويتأمل أحوال الكون مهما تعددت فيه الألوان والأديان والمذاهب؛ ومن ناحية أخرى هو رجل تطبيقي، وله منهج في التعامل مع المشكلات والمعضلات الكونية الكبرى. لم يعط أحد انطباعاً بأنه مثل الشخصيات الزاعقة بالضجيج التي تشاركه نفس المساحة من الشهرة مثل «جيف بيزوس» صاحب «أمازون» الذي ورث عرش الأغنى في العالم (177 مليار دولار) أو «إيلون ماسك» مالك «تسلا» المنافس على العرش. بيل غيتس كان ممكناً له الوقوف مع البسطاء في الطابور انتظاراً للحصول على شطيرة من «البرغر» الذي يعشقه.
وللوهلة الأولى عندما بات خبر طلاق بيل ومليندا غيتس ذائعاً فإنه مع الكثير من الأسف والإشفاق على شخصيتين عالميتين بهذا القدر، فإن ما قدماه من أسباب كان لائقاً بهما. البيان الذي صدر عنهما كان هادئاً، يتحدث عن الإنجازات التي حققاها في تربية ثلاثة أبناء «رائعين»؛ وفيه طمأنة للسوق والبشر أنهما سوف يستمران سوياً في إدارة المؤسسة الخيرية العالمية. وإذا كان في الأمر استمرار للعلاقة، أو بعض منها فلماذا هذا الانفصال إذاً؟ الإجابة كانت مركبة، ولكنها تليق بهما، فهما أصدرا هذا القرار بعد قدر كبير من التفكير، و«الكثير من الجهد للحفاظ على العلاقة»، في إشارة إلى أنهما ربما لم يتحدثا سوياً فقط، أو تدخل أصدقاء بينهما، وإنما المرجح أنهما ذهبا إلى أطباء نفسيين أو متخصصين في العلاقات الزوجية؛ ومع ذلك فإنه لم يكن هناك من طريقة لتجنب الانفصال. والسبب الذي طرحاه هو أنه لم يعد ممكناً لهم «النمو معاً» كزوجين في المرحلة التالية من حياتهما. هذا السبب ليس معتاداً في تحليل حالات الانفصال، ولكن لما كان كلا الطرفين لديه من الاتساق الذاتي ما لا يعطي للكذب مكاناً، فإنه كان واجباً أخذ ما يقولونه بالجدية التي يستحقانها. هناك فارق عمري بينهما قدره تسع سنوات فهو من مواليد 1955، وهي 1964، الفارق لم يكن مهماً عند الزواج 1994؛ ولكنه الآن بات أكثر أهمية من النواحي العاطفية والنفسية، والأهم بالنسبة لهما كيف سيكون نمو الشخصية في مرحلة باتت فيها المسافة بحكم السن أكبر.
ولكن ما كان معقولاً للوهلة الأولى لم يعد كذلك بعد الوهلتين الثانية والثالثة، حيث تكشفت أمور تنزل بالرجل إلى مرتبة البشر والجماعة الإنسانية. لم يعد الرجل يختلف كثيراً عن جيف بيزوس الملياردير الذي قام قبل فترة ليست بعيدة بطلاق زوجته، لكي يتزوج مذيعة تلفزيونية جميلة. القصة هنا عادية، فمن الممكن حتى بين الأغنياء أن يشعر الزوج بالملل من رفيقة حياته، ويحتاج إلى رفيقة حياة أخرى. ما فعله بيزوس أنه منح زوجته تسوية قدرها 34 مليار دولار، وجرت عملية الانفصال من دون ضجيج. ولكن في حالة بيل غيتس تُكشفت قصتان حتى الآن: أولهما أن الرجل كان على علاقة وثيقة بشخصية مشبوهة للغاية هي جيفري إبستين الذي ذاعت قصته بعد انتحاره في أحد سجون نيويورك، بعد إدانته في استخدام فتيات صغيرات السن في معاملات جنسية ظهر فيها صور لدونالد ترمب وبيل كلينتون والأمير إدوارد من العائلة المالكة البريطانية وغيرهم. الذائع أن العلاقة مع بيل كانت من أجل الترويج للعمل الخيري، وفي قول آخر من أجل الحصول على جائزة نوبل العالمية التي لم يعرف أبداً ماذا يمكن لشخصية مثل إبستين أن يكون لها أثر في هذا الحدث المهم. القصة الثانية والتي كانت هناك دلائل عليها من مصادر شركة مايكروسوفت ذاتها، وهي أن الرجل كان على علاقة مع إحدى موظفات الشركة استمرت لفترة طويلة حتى أخرجه مجلس إدارة الشركة من فوق مقعد رئيسها.
«الملياردير الطيب» صاحب العقلية العلمية المرتبة والذي وقع على أكتافه حل المشكلات العالمية، وتوجيه المكاسب الرأسمالية لجعل الكوكب مكاناً أفضل من خلال العمل الخيري، أصبح إنساناً يرتكب الذنوب والمعاصي. ما قاله الأقدمون في هذا هو أنه من لم يكن بلا خطايا فليرم الرجل بحجر.
تعميم الذنب على البشرية كلها هنا ليس كافياً للتعامل مع إشكالية حيرت الإنسان منذ خُلق ودفعته دفعاً للخروج من الجنة إلى الأرض. هنا لا يمكن الركون إلى بقية القصة التي تجعل الدافع كامناً في حواء والتفاحة، خصوصاً في بيئة عالمية تسعى إلى إعفاء المرأة ومساواتها في المسؤولية مع الرجل. الدراما البشرية التي نشأت من كل ما سبق لا تزال في بدايتها، والأرجح أن ميلندا سوف تجد في المؤسسة الخيرية ما يرضيها، أما بيل فربما لا تزال لديه قصة أخرى لتغيير العالم.