عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

بريطانيا... الاستجواب والخبر

هل هناك ما يسمى «حدث الأسبوع» في عصر عجز المؤسسة الحاكمة عن فرضه كخبر؟
فهناك بدائل الحصول على المعلومة والتعبير عن الرأي، كوسائل التواصل الاجتماعي، والتعبير المباشر كالمواقع المستقلة (الويب - سايت) على الإنترنت، و«البلوغات» أو «المدونات».
لكن في أكثر وأقدم بلدان العالم ديمقراطيةً وانفتاحاً وتنوعاً في مصادر التعبير، كبريطانيا مثلاً، يفرض خبر نفسه كقضية الأسبوع (وهو أمر سلبي لا إيجابي) خارج الوسائل التقليدية منتقلاً إلى التواصل الاجتماعي والوسائل البديلة، ليتناوله الأفراد بالتعقيب، أو التفنيد، أو الإضافة.
الخبر السائد في بريطانيا كان مثول دومينيك كمينغز، المستشار السياسي السابق لرئيس الوزراء بوريس جونسون، لسبع ساعات أمام لجنتين برلمانيتين يوم الأربعاء في وستمنستر.
الأولى كانت لجنة العلوم والتكنولوجيا، والثانية لجنة الصحة والرعاية الاجتماعية، حيث استجوبا المستشار السابق حول أداء الحكومة لمحاصرة وباء «كوفيد - 19».
وللتذكرة، هناك 24 لجنة مختارة في برلمان وستمنستر ولجنتان مشتركتان (بين مجلسي العموم واللوردات). وهناك أربعة أنواع مختلفة من اللجان حسب المدة والأعضاء، واللجان التحتية، لا داعي لشغل القارئ بها، فلا تعني شيئاً في أي نظام سياسي (حتى الديمقراطي منها كأميركا والبلدان الأوروبية) خارج النظام البرلماني البريطاني.
دور اللجان البرلمانية أساسي، ويتجاوز وظيفة المحاسبة البرلماني، فالأعضاء نواب يمثلون دوائرهم ويلتقون بالناخب، أي كوكيل نيابة الشعب للتحقيق مع الحكومة.
اللجان توظف باحثين مختصين (بجانب الباحثين العاملين في مكتب كل نائب عضو في اللجنة) للتدقيق في كل تفاصيل الشؤون التي تتناولها اللجنة. رؤساء اللجان (وينتخبون من مجموع النواب بصرف النظر عن الانتماء الحزبي في بداية الدورة البرلمانية) متخصصون في تفاصيل شؤون اللجنة وبعضهم وزراء سابقون؛ فكما يعلم القارئ، الحكومة تتغير بالانتخابات والوزراء يتغيرون، ويصبح رئيس الحكومة نائباً عادياً يجلس في المقاعد الخلفية.
رئيس لجنة الصحة والرعاية الاجتماعية، جيرمي هنت، كان شغل منصب وزير الصحة في ثلاث حكومات متعاقبة ما بين 2010 و2018؛ أي كان في موضع مكنه من الحصول على المعلومات، وإدراك تفاصيل آلية تشغيل الجهاز الوظيفي في الوزارة. أما لجنة العلوم والتكنولوجيا فرئيسها كريغ كلارك، شغل مناصب وزير الطاقة والصناعة، وقبلها، وزير التجارة، وقبلها الإدارة المحلية، والعلوم والجامعات، ووزير تمويل الخزانة (الخزانة واحدة من ثلاث وزارت تحتية في وزارة المالية)، أي أنه ملم بتفاصيل العلوم والتكنولوجيا والإدارة والتمويل، في التعامل مع مكافحة الوباء.
ربما الوظيفة الأكثر أهمية وتأثيراً للجان البرلمانية هي محاسبة الحكومة والوزراء والمسؤولين، واستدعاء أي شخص من الحكومة أو موظفي الدولة أو من خارج الدائرتين.
المناقشات البرلمانية والاستجواب الأسبوعي لرئيس الحكومة والتصريح الوزاري والأسئلة للوزراء تدور كلها فيما يعرف بـ«مسرح العموم» (فالترجمة الحرفية «أرضية الدار» The floor of the House لا تفي بالمعني)، وهي غير «قاعة المجلس» (The House)؛ فالأولى تعني منطقة البساط الأخضر، حيث يتم التقارع بالكلمات، والمقاعد الخضراء للنواب، وهي ضمنياً داخل الثانية التي تضم الحراس والكتبة (مدونو الجلسة) ومنصات الصحافيين، وضيوف النواب من مجلس اللوردات والمدعوين.
وحتى المناظرة الأسبوعية بين زعيمي الحكومة والمعارضة ليست استجواباً فعلياً، فاللوائح البرلمانية تحصرها في ست مبادلات، ولرئيس الحكومة الكلمة النهائية بعد السؤال السادس؛ كذلك الأمر بالنسبة للوزراء في الإجابة شفهياً أو كتابياً على استفسارات النواب. أما في استجواب اللجان البرلمانية، يظل الأعضاء يلحون، ولساعات طويلة على الماثل أمامها بضرورة الإجابة في أدق الأمور، وهم مدعمون بوثائق لتجنب المراوغة، أي استجواب حقيقي وليست منازلة في البلاغة بين الحكومة والمعارضة. فلجنة العلوم والتكنولوجيا مكونة من ستة نواب وخمس نائبات من ثلاثة أحزاب مختلفة؛ ولجنة الصحة والرعاية الاجتماعية مكونة من ست نائبات وخمسة نواب ينتمون لثلاثة أحزاب وبينهم طبيبان. استجواب المستشار السابق لرئيس الوزراء، يبين دوراً متميزاً للجان، إذا كان لا يمكن استجوابه أمام ممثلي الشعب خارج اللجنتين، لأن من صلاحيات اللجان استدعاء أي شخص تتطلب المصلحة العامة، أو رعاية المال العام استجوابه (كاستجواب رئيس الحكومة الأسبق ديفيد كاميرون - ولم يعد نائباً منتخباً - أمام لجنة المحاسبة المالية العامة قبل أسبوعين)، بينما الوجود على «مسرح العموم» لا يسمح به لغير النواب المنتخبين من الشعب، والسيد كمينغز ليس منتخباً بل كان موظفاً تعاقد مكتب رئيس الوزراء معه ليكون المستشار السياسي الخاص.
شهادة كمينغر - وكان رئيس الحكومة أقاله في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي - تحولت لخبر الصفحة الأولى بعد اتهامه وزير الصحة بالكذب على مجلس الوزراء بشأن إخلاء المستشفيات عند بداية الوباء من المسنين ونقلهم إلى دور المتقاعدين والعجزة، بلا إجراء فحوصات التأكد من خلوهم من فيروس كورونا، مما أدى لنشر العدوى المميتة في هذه الدور. كما اتهم الحكومة ورئيسها بوريس جونسون بالتسبب في موت عشرات الآلاف بعدم التحرك مبكراً لإجراء الفحوصات وعزل المصابين، وفرض الحجر الصحي في المطارات، وإلغاء المباريات والتجمعات الكبرى (بلغ عدد الوفيات من «كوفيد» 153 ألفاً حتى مطلع هذا الشهر).
المزعج، بالنسبة لصحافي الجيل القديم، أن الصحافة والشبكات التلفزيونية فرضت نشر كمينغز لغسيل الحكومة القذر، على الرأي العام «كخبر» جديد؛ وفي الواقع لم يكشف المستشار السابق جديداً، فهي أمور لاحظها من تابع الأحداث (ويمكن للقارئ متابعة ما كتبته هنا وعلى تغريدات «تويتر» والتواصل الاجتماعي منذ فبراير/ شباط 2020)، أو كأمور بديهية. السبب أن الجيل الجديد من الصحافيين، بالكسل والاعتماد على التكنولوجيا قبل الخبرة والعقل الراجح، لم يوجهوا السؤال المناسب للشخص المناسب في الوقت المناسب منذ ظهور الوباء قبل 16 شهراً؛ بل وضعوا طاقتهم وإمكاناتهم الصحافية في قضايا كمحاولة النيل من كمينغز نفسه، لأنه سافر بسيارته مصطحباً ابنه وزوجته إلى بيت أبويه على بعد 433 كيلومتراً من لندن أثناء فترة العزل الاجتماعي؛ أو كاستقبال البروفسير نيل فيرغسون، صديقته الحميمة ليلاً، لمجرد أنه صاحب فكرة العزل الصحي أصلاً. الاستطلاعات بينت عدم اكتراث الشعب بهذه الأمور؛ وكان الأفضل تركيز الصحافة على توفير المعلومة المهمة للرأي العام فيضغط على الحكومة لاتباع سياسة كانت ستنقذ أرواح الآلاف.