سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

وشهر الفلسطينيون هواتفهم

كتب الحاخام الأميركي المعروف شمولي بوتيك مقالاً رناناً في «جيروزاليم بوست» يحذّر فيه من خطورة انهيار الرأي العام المؤيد لإسرائيل، وينعى سمعتها، بسبب الحرب الأخيرة. قال: «نحن اليهود لم نؤمن أبداً بأهمية العلاقات العامة ونشر حقيقة رسالتنا. بينما يمكن القول إن للفلسطينيين مئات من المشاهير المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، وملايين من المتابعين الذين ينشرون أكاذيبهم، فيما ليس لإسرائيل أي شيء تقريباً». لا بد أن يصعق أي عربي، أمام مبالغات الحاخام الذي صُنف تكراراً من بين الحاخامات الأكثر تأثيراً في الولايات المتحدة، بسبب إطلالاته التلفزيونية وعلاقاته الوثيقة بهوليوود. لكن الرجل معذور؛ فهو لم يستفق بعد، من صدمة أن إسرائيل لم تعد وحدها مَن تنشر صورها، وتفرض سرديتها، وتعتلي المنابر، من دون أن تجد من يكذّبها. اختلف المشهد على الحاخام... شاهد وسائل التواصل تضجّ بصور الأطفال القتلى تحت الركام، وجنود الاحتلال المدججين الذين يسحلون الفتيات، والمستوطنين يهاجمون الشبان الفلسطينيين العزّل بالأسلحة، والتعاطف يتعاظم مع الفلسطينيين. لا بد أن المفاجأة كانت كبيرة أيضاً حين نزل ما يقارب 120 ألفاً في مظاهرة لندن للتضامن مع فلسطين، ففي بلاد «وعد بلفور» ثمة ما يتغير كذلك. في فرنسا أُحصيت 60 مظاهرة، وفي أميركا اللاتينية كانت الأعداد مدهشة، وفي مدن أميركا نفسها جاءت المظاهرات مدوية.
الشبان الفلسطينيون أحدثوا الفرق بالتوثيق الذي لا يتوقف؛ صورهم، رسائلهم، تسجيلاتهم، تشبيكهم مع أشقائهم العرب، مع أصدقاء يتحدثون لغات مختلفة، تركيز الخطاب على الجانب الإنساني الحقوقي. وصم إسرائيل بـالـ«أبارتيد» بكل ما تحمله من خلفية إجرامية لا تزال عالقة في الأذهان من أيام كفاح سود جنوب أفريقيا، فعل فعله. مصطلح «الفصل العنصري» ليس بحاجة لشرح. شبابنا من فلسطينيين وعرب، واصلوا الليل بالنهار، وهم يبثون رسائلهم على مختلف الوسائل المتاحة، ليوصلوا كلمتهم. في لبنان، غالبية المنصات الاجتماعية التي انطلقت أثناء ثورة «17 تشرين»، وتجمّع لها مئات آلاف المتابعين، تجنّدت لتدافع عن المقهورين في فلسطين. تفتح «كلوب هاوس» فتفاجأ بمجموعات على مدار الساعة، حوّلت التطبيق إلى إذاعة تنقل الأخبار أول فأول من قلب فلسطين، كل من منطقته، وتشرح الوضع لمئات العرب الذين ما عادوا يريدون اللجوء إلى وسائل الإعلام التقليدية. غرف أخرى أخذت على عاتقها التحدث بالإنجليزية، للوصول إلى جمهور أوسع. ثمة مجموعات كانت مهمتها، تطوير الأداء على وسائل التواصل وتنسيق المشاركات لزيادة التأثير.
الجيل الجديد ليس متعمقاً في التاريخ، ولا يحب التفاصيل السياسية. حساسيته الإنسانية هي وحدها التي تحركه. منى كرد فعلت ما لا يصدق. هذه الصبية المقدسية الصغيرة، التي كانت تنقل معاناة حي الشيخ جرّاح إلى آلاف المتابعين في البداية، تصل مع تصاعد الأحداث إلى ما سيقارب المليون.
أُرغمت هي وعائلتها على تقاسم منزلهم مع مستوطنين 13 سنة كاملة. قهر لم يلفت جماعة حقوق الإنسان وأنصار البيئة. شقيقها الشاب محمد، العائد من بروكلين، متخصص في الأدب والشعر، يتحدث الإنجليزية بطلاقة ووداعة لافتتين، هو الآخر له متابعوه، وشعبيته التي تخترق القلوب. حين تصاعدت الاعتداءات في رمضان كانت الأرضية جاهزة. تكاثفت الفيديوهات، والمقابلات والنقل المباشر.
مئات مثل منى كرد، التي لا تزال تتواصل يومياً مع متابعيها، وتخبرهم لحظة بلحظة عما يحدث في حي الشيخ جرّاح. أصبحت ابنة الرابعة والعشرين، المراسلة المتخصصة في الحي التي ينتظر كلمتها العالم، ليعرف على وجه الدقة ما يحدث في هذه البقعة المحاصرة؛ حيث يمنع من دخولها أي متضامن، ويعيش سكانها تحت الرعب من مستوطنين مسلحين، يخشون أن يتفردوا بهم. أصبحت الهواتف وتطبيقاتها، سلاحاً جديداً لأهالي الأحياء المحاصرة. صفحات «عين على فلسطين» المنتشرة على أكثر من تطبيق، صنعت العجائب، مع مليوني متابع وتسجيلات غاية في الاحترافية والإنسانية، انتشرت كالنار في الهشيم حول العالم، بفضل استخدامها الإنجليزية.
رصدت «نيويورك تايمز» في مقال طويل هذه الظاهرة التي قلبت الموازين، متحدثة عن الأصوات الرسمية الخافتة في العالم كله، والصراخ الشعبي، ناقلة وجهة نظر الشبّان الذين بدأوا ينشرون عناوين الصحف الظالمة ويصححونها على طريقتهم. ومما لفت أيضاً ذاك الربط الذكي بين حملة «حياة السود مهمة» بكل حساسياتها الأميركية الحقوقية، وما يعاني منه الفلسطينيون من اضطهاد.
في الأيام الأخيرة، جندت إسرائيل جيشها الإلكتروني بشكل غير مسبوق لتكافح حملة لم تشهد لها مثيلاً، ورغم تعاطف أصحاب المنصات الإلكترونية، وتعاونهم لحجب صفحات بالمئات ومنشورات، فإن للمنع حدوداً وللاحتيال عليه ألف طريقة. حتى تغريدات نجوم كبار مثل المغنية الشهيرة ريهانا، وباريس هيلتون، ومغنية الراب نونام، ولاعب كرة السلة دوايت، المتعاطفة مع الفلسطينيين وتراجعهم عنها، استخدمت بجدارة عالية. على أهميتها، إنها مجرد حرب تسجيل نقاط.
عارضة أزياء مثل بيلا حديد، أميركية ذات أصول فلسطينية، لها عشرات ملايين المتابعين، أثارت جنوناً في إسرائيل، بسبب تظاهرها وتأييدها. ولا يفهم لماذا أعطى حساب حكومي إسرائيلي أهمية لعارضة أزياء، واتهمها بأنها تريد أن تلقي باليهود في البحر، مع أنها لم تقل ذلك.
ساعدت إسرائيل كثيراً في تغذية الحملة التي أوغلت في الدماء الفلسطينية، حتى جعلت الصور بغزارة يصعب صدّها، كان عدد الأطفال من الكثرة حتى أصبح من المحال تجاهل مشاهد جثثهم المسجّاة يومياً. جاء تدمير برج يضم مكاتب صحافية بالعشرات، بمثابة إطلاق لشرارة أخرى جديدة. إسرائيل مرتبكة، ومتفاجئة. نحن أيضاً لم نكن نتوقع ما نرى، التحولات تسبقنا، وشباننا يحضّرون لنا ما كنا نجهله.
الضحايا في القطاع أكثر 20 مرة من عددهم في إسرائيل، غير أن العين اليوم هي أيضاً على الخسائر المعنوية، خاصة أن هذه المنازلة، تحديداً، لا تزال في أولها.