توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

أزمان طيبة وأخرى...!

«حقبة الخلف الصالح» هو عنوان مقال الزميل حسين شبكشي، في هذه الصحيفة يوم الأحد الماضي. لا بدَّ أنَّ بعض القراء قد تبسَّمَ وهو ينظر في هذا العنوان الغريب. وقد ذكَّرني بتقليدٍ سائرٍ بين دارسي العلوم الشرعية، فحواه أنَّهم يطلقون وصفَ «بقية السلف» إذا أرادوا المبالغة في مدح عالمٍ كبير، ولا سيَّما عند وفاتِه. فكأنَّ الأصل أنَّ هذا العظيم قرينٌ للماضين، فنلحقه بهم وليس بأقرانه الأحياء.
ويعتقد الزميل شبكشي أنَّ التقدير الوافر للأسلاف، مقابل قلَّة الاكتراث بالمعاصرين (الخلف) مرجعه الحديث المنسوب للنبي «خير القرون قرني» الذي فُسّر في أنَّ عموم المعاصرين له - عليه السلام - والجيل الذي يليهم، خيرٌ من عامة من يأتي تالياً.
ويجري المجرى نفسه – في ظنّي - الروايات المتعلقة بخروج المهدي في آخر الزمان، إذا «امتلأت الأرض ظلماً وجوراً». فهذه وذاك يتحدثان عن سير تراجعي للتاريخ: كلَّما تأخر الزمن زاد فسادُه، وكان أهلُه أقلَّ خيرية ممَّن سبقهم.
لا أستطيع تكذيب تلك الروايات، مع أنّي لاحظت أنَّ علماء الحديث قد صرفوا جلَّ اهتمامهم إلى سنده، أما دراسة المتن فاقتصرت على التحقق من اتحاد أو اختلاف الألفاظ، في الروايات المتعددة للحديث الواحد، ونادراً ما اهتموا بمعقولية المتن ومطابقته للواقع الذي نعرفه، أو حتى مطابقته لروح الرسالة المحمدية وما نفهمه من آيات الكتاب المبين. وقد أشار إلى طرف من هذه العلامة ابن خلدون، في نقده مناهجَ بحث الرواية التاريخية، في «المقدمة».
لست إذن في صدد التعرُّض لصحة هذه الأحاديث وغيرها. لكن يهمني الإشارة إلى أنَّ مفادها مخالفٌ لما نعرفه من الواقع وأوامر القرآن الصريحة، وحكم العقل. والمفاد المقصود هو فرضية أنَّ التاريخ البشري يتراجع، وأنَّ التالي أقلُّ خيرية من السابق.
أما مخالفتها لأوامر القرآن فيظهر في مفاد الأمر بالجهاد والدعوة للفضائل. فلو لم يكن متوقعاً أن يُفضيَ هذا الأمر إلى تغيير الحال إلى ما هو أحسن، لكان الأمرُ به عبثاً، لا سيَّما إذا كان تنفيذ الأمر مستوجباً لتضحيات جسيمة، فكيف يكلفنا الله بشيء مع علمه بأنَّ الأمور لن تتعدل؛ لأنَّها تسير - وفقاً لحتمية تاريخية - في الاتجاه المعاكس؟
وأما مخالفتها لحكم العقل فيظهر في الربط بين العمل والناتج. يأمرنا العقل بفعل معين، بناءً على تقدير منطقي سابق، فحواه أنَّ سوء الحال وحسنه ثمرة لفعل البشر وتصرفهم. القول بأنَّ الآتي سيكون حتماً أسوأ من الماضي، معناه أنَّ كل سعي للخير سينتهي إلى عكسه، أي أنَّ العمل للخير وعدم العمل سواءٌ في النتيجة.
وأما مخالفتها للواقع، فظاهر في المقارنة بين واقع البشرية في الماضي والحاضر. فعدد المسلمين تضاعف ألفَ مرة، وانتشارهم في العالم كذلك، وتقلَّص الظلم في العالم، وبات القرآن ميسراً لكل البشر بمختلف لغاتهم، وتعاظمت العلوم والمعارف، وارتفعت قيمة الإنسان، وزاد الاهتمامُ بالعمران وحماية الطبيعة والحيوان. وهذه كلُّها من مقاصد الشريعة التي لا خلاف فيها. أي أنَّ العالم سائر في تطبيق ما أراد النبي تبليغه، ولو تحت مسميات أخرى. فهل زمننا هذا أقلُّ قيمة من أزمان الأمويين أو العباسيين أو المماليك أو السلاجقة، أو أمراء الطوائف على سبيل المثال؟
لقد أثار الزميل شبكشي مسألةً في غاية الأهمية، وهي تثير سلسلة من الأسئلة، يتلخَّصُ أحدُها في مسألة التفاضل بين الأزمنة، وفق المتعارف في التراث. وأرى أنَّنا في حاجة للتأمل فيها من دون انبهار ولا توجُّس.