داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

اللغة العربية تنتظر انتفاضة

يكفي الأمة العربية فخراً واعتزازاً أنها تتحدث اللغة العربية؛ لغة القرآن الكريم والعلوم والآداب والاكتشافات والحضارات. لم تحفظ أمتنا المجيدة، في عزها أو هوانها، ما تفخر به أكبر وأعظم من لغتنا التي انتشرت من أميركا اللاتينية إلى الصين واليابان وأستراليا، مروراً بالبحار والخلجان والصحارى والجبال والوديان والسهول والهضاب.
قالت المستشرقة والكاتبة الألمانية زيغريد هونكه (1913 - 1990): «كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمالَ هذه اللغة ومنطقَها السليم وسحرَها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة. وقد اندفعوا.... يتكلمونها بشغف...».
ولم يستطع المستشرق الفرنسي إرنيست رينان (1823 - 1892) كتمَ إعجابه بلغة الضاد، فقال: «من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرُحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، ولم تُعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة». وفي السياق نفسه، يُبرز المستشرق الألماني يوهان فك (1894 - 1974) مقام اللغة العربية في قوله: «لقد برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يُقصد بها زحزحة العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل، فستحتفظ العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية».
أحياناً أقول لنفسي كيف للمستشرقين الأجانب المنصفين أن يتغنوا بلغتنا الأثيرة بهذا الجمال، في حين نغفل نحن عن هذا المجد الرصين؟! إليكم ما يقوله المستشرق الفرنسي وليم ميرسيه (1872 - 1956): «العبارة العربية كآلة العود الموسيقية، إذا نقرتَ على أحد أوتارها، رنَّت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تُحرك اللغة في أعماق النفس، من وراء حدود المعنى المباشر، موكباً من العواطف والصور»!
وعن منبرٍ أرفع وأسمى وأقدس يتحدث المستشرق الألماني كارل بروكلمان (1868 - 1956) قائلاً: «بلغت اللغة العربية بفضل القرآن الإعجازي من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا. والمسلمون جميعاً مؤمنون بأنَّ العربية وحدها اللسان الذي أُحِلّ لهم أن يستعملوه في صلاتهم».
وينوه المستشرق البريطاني الفريد جيوم (1888 - 1966) باستيعاب واتساع لغة الضاد قائلاً: «ويسهل على المرء أن يُدرك مدى استيعاب اللغة العربية واتساعها للتعبير عن جميع المصطلحات العلمية للعالم القديم بكل يُسرٍ وسهولة بوجود التعدد في تغيير دلالة استعمال الفعل والاسم».
لله دُرّكِ من لغة. عن هذه اللغة الفريدة التي لا تموت يقول المستشرق النمساوي جوستاف جرونيوم (1909 - 1972): «ما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها؛ فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان، أما السعة فالأمر فيها واضح. ومن يتّبع جميع اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية، ويضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات».
لقد قرأت كثيراً من كتب الرواد والأوائل في اللغة والدين، لكني توقفت بإمعان أمام ما قاله المؤرخ البلجيكي جورج سارتون (1884 - 1956): «وهب الله اللغة العربية مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن تُعَبّر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة».
الحمد لله أن مكّن هؤلاء العلماء الأجانب من أن يقولوا شهادات حق بليغة قيمتها أكبر وأندر مما لو كنا قلناها. وإذ أستشهد بتلك الأقوال الرصينة لا يفوتني أن أشير إلى ما قاله المستشرق الفرنسي المعاصر جاك بيرك (1919 - 1995) وهو يربط اللغة العربية بالأسلحة التي استخدمها المناضلون العرب في مكافحة الاستعمار الأجنبي حين قال: «إن أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في دول المغرب العربي (الجزائر وتونس والمغرب) هي اللغة العربية، بل هي اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات؛ فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا، والكلاسيكية العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية، وكانت العامل القوي في بقاء واستمرار الشعوب العربية المُحتلة».
لم تجد المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) أودري أزولاي في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2020 ما تقوله أهم من أن اللغة العربية «هي واحدة من أكثر لغات العالم انتشاراً بين ما يقترب من 450 مليون نسمة، بالإضافة إلى أنها ركيزة من ركائز الحضارة الإنسانية، وهي لغة الابتكار والاستكشاف في مجالات العلوم والطب والفلك والرياضيات والفلسفة والتاريخ على مر العصور».
مع ذلك، ننظر اليوم بحسرة إلى تراجع اللغة العربية في مجالات العلم والمعرفة والتعامل اليومي والاختراعات والاكتشافات، في الوقت الذي ينظر فيه الغرب إلى اللغة العربية بإعجاب شديد، لأنها كانت لغة العلم والحضارة والفتوحات الإسلامية طوال أكثر من ألف ومائة سنة.
أتذكر أن مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» الأميركية الشهيرة أصدرت قبل أكثر من عقد واحدةً من فضلى الموسوعات العالمية تحت عنوانٍ مُوحٍ «ألف ابتكار وابتكار». إنها موسوعة مبهرة عن حضارة فتحت عصور النهضة التالية في الغرب والشرق. فقد كانت الأساس في كل العلوم من الرياضيات إلى الفضاء مروراً بالطب والصيدلة والهندسة والزراعة والحيوان والتعليم والبيئة والمناخ والجغرافيا والفلك والمجتمع. تكفي قراءة «مقدمة ابن خلدون» لمعرفة المدى الذي وصل إليه المسلمون الأوائل، والعرب في مقدمتهم، فيما أصبح يُعرف عالمياً بالعصر الذهبي لحضارة الشرق.
تقول الموسوعة: «تخيل أنك تعيش في القرن السابع، وبينما كانت تعيش أوروبا فترة من الركود الفكري، كانت ثورة أكاديمية قوية تنشأ في الطرف الآخر من العالم. فعبقرية المجتمع الإسلامي تخطت حدود المعرفة لتصل إلى درجة أن ابتكارات ذلك العصر لا تزال تشكل الحضارة حتى يومنا هذا. إن إنجازات هؤلاء الرجال والنساء أثّرَت في تطور علم الرياضيات الحديثة والعلوم والهندسة والطب. وهذه الموسوعة تسلط الضوء على ذلك العصر الذهبي الذي يعود إليه الفضل في الإرث الذي نتقاسمه اليوم. وترسم الموسوعة خطاً زمنياً لتعقب أهم التطورات العلمية والتكنولوجية في العِلم الإسلامي منذ القرن السابع للميلاد وحتى القرن الثامن عشر للميلاد، متضمنة الابتكارات التي لا تزال تؤثر في أسلوب حياتنا اليوم. في العادة يشار إلى فترة الألف سنة التي تبدأ من القرن الخامس للميلاد بأنها عصور الظلام في العالم الغربي، إلا أنها كانت على النقيض من ذلك في المجتمعات الإسلامية. ففي الواقع كانت اللغة العربية هي لغة العلم منذ القرن السابع للميلاد، وتم تحقيق الآلاف من الإنجازات الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية على يد رجال ونساء يعتنقون ديانات مختلفة وينتمون إلى ثقافات متنوعة، عاشوا جميعاً في ظل الحضارة الإسلامية.
يقول النجم السينمائي البريطاني من أصل هندي والحائز جائزة الأوسكار السير بين كينكسلي الذي مثل دور الزعيم الهندي غاندي في الفيلم الشهير «غاندي»: «في الحضارة الإسلامية كان إشعاع الاكتشافات والابتكارات يشمل كل شيء. بل إن معظم حقائق عصرنا الحالي صُنعت في ذلك العصر».
لعل هذه النظرة إلى مشهد الماضي المهيب تسهم في صنع مخطط، أو بلغة المهندسين «طبعة زرقاء»، لتصميم مستقبل مُشِعْ. وتسعى اليوم دول عربية وأجنبية إلى تمكين الحضور اللغوي العربي في عالمنا الرقمي الراهن، حيث يتيح لتطبيقات الذكاء الصناعي والتكنولوجي أن يعزز الإسهام العربي مع لغات العالم في نشر المعرفة وإتاحتها أمام ملايين البشر.