سُئل الأمير محمد بن سلمان، خلال مقابلة تلفزيونية، الشهر الماضي، عن مشروع تطوير قوانين المملكة العربية السعودية، وهو أحد الموضوعات التي اهتم بها ولي العهد منذ فترة، وكان جوابه أنَّ هذا المشروع قد اعتمد أفضل ما في التجارب الدولية، خاصة ما يتعلق بالشفافية والوضوح، ومنع العشوائية والتعارض في الأحكام القضائية، بحيث تكون هناك أحكام متشابهة عندما تكون القضايا متشابهة.
وأوضح ولي العهد، وهو قانوني ضليع، أنَّ المملكة ليست في وارد إعادة اختراع العجلة، بل تعتزم الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، مع عدم مخالفة صريح القرآن وصحيح السنة، وتحقيق المصلحة العامة، والمحافظة على أمن المواطن ومصالحه، وتعزيز المساهمة في التنمية، وهذا المعيار الأخير مهم خاصة لتنفيذ رؤية 2030 التي يتابعها الأمير عن كثب.
وأن تكون تلك القوانين متسقة مع الأعراف الدولية، وواضحة وشفافة، فإن ذلك سيسهل على المواطن والمقيم والمستثمر والسائح التعامل معها. ولنأخذ على سبيل المثال ما تستهدفه المملكة من مضاعفة الاستثمارات الأجنبية فيها خلال السنوات القائمة، فلن تستطيع إقناع المستثمر المستهدف إذا كان النظام القانوني غير متسق مع المعايير الدولية أو غامضاً بحيث لا يعرف المستثمر كيف سيتم تطبيقه. وبالمثل إذا كان هدف قطاع السياحة جذب 100 مليون سائح خلال الفترة المقبلة، فإن السائح المستهدف لن يتحمس لزيارة المملكة إذا كان غير متأكد من شفافية القوانين واتساقها مع الأعراف الدولية في فحواها وآلية تطبيقها. والأمر ذاته ينطبق على رغبة المملكة في جذب القدرات البشرية الخلاقة والمتميزة للعمل فيها.
ورفض ولي العهد أي تخوف بأن هذه الطريقة في سن القوانين يمكن أن تُضعف الهوية الوطنية، قائلاً: «إذا هويتك لم تستطع أن تصمد مع التنوع الكبير في العالم، معناه أن هويتك ضعيفة ويجب أن نستغني عنها، وإذا هويتك قوية وأصيلة تستطيع أن تنميها وتطورها وتعدل السلبيات التي فيها وتحفز الإيجابيات التي فيها، معناه أنت حافظت على هويتك وطورتها... وأعتقد أن هويتنا قوية للغاية ونفتخر بها».
وكان الأمير محمد بن سلمان قد أعلن، في شهر فبراير (شباط)، عن بعض ملامح هذا الإصلاح القانوني، موضحاً أنه يهدف إلى تطوير العملية التشريعية، من خلال «استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وتُرسخ مبادئ العدالة والشفافية وحماية حقوق الإنسان وتحقق التنمية الشاملة، وتعزز تنافسية المملكة عالمياً من خلال مرجعياتٍ مؤسسية إجرائية وموضوعية واضحة ومحددة».
وهناك أربعة قوانين رئيسية تحت الإجراء في الوقت الحاضر، هي مشروع نظام الأحوال الشخصية، ومشروع نظام المعاملات المدنية، ومشروع النظام الجزائي للعقوبات التعزيرية، ومشروع نظام الإثبات.
وتمثل هذه القوانين موجة جديدة من الإصلاحات، تهدف إلى تعزيز «إمكانية التنبؤ بالأحكام ورفع مستوى النزاهة وكفاءة أداء الأجهزة العدلية وزيادة موثوقية الإجراءات وآليات الرقابة، كونها ركيزة أساسية لتحقيق مبادئ العدالة التي تفرض وضوحَ حدود المسؤولية، واستقرار المرجعية النظامية بما يحد من الفردية في إصدار الأحكام»، حسب تصريح ولي العهد في حينه.
ووفقاً للإجراءات المتبعة في المملكة، فإن مشاريع القوانين تمر حالياً بمراحل مختلفة من العملية التشريعية، إذ تُحال أولاً إلى مجلس الوزراء والأجهزة التابعة له؛ لدراستها ومراجعتها، تمهيداً لإحالتها إلى مجلس الشورى، ومن ثم إصدارها وفقاً للأصول المتبعة.
ويدرك المسؤولون السعوديون أن عدم وجود هذه التشريعات أدى في الماضي إلى تباينٍ في الأحكام وعدم وضوح في القواعد الحاكمة للوقائع والممارسات، ما أدى لطول أمد التقاضي وتباين في الأحكام الصادرة لا يستند إلى نصوص نظامية، علاوة على ما سببهُ ذلك من عدم وجود إطار قانوني واضح للأفراد وقطاع الأعمال في بناء التزاماتهم، وبالتالي إضعاف قدرتهم على التخطيط وفقاً لأطر قانونية واضحة تحمي حقوقهم وتوضح التزاماتهم، وبالمقابل أعطى البعض فرصة للتهرب من مسؤولياتهم.
وكما قال ولي العهد، فإن غياب هذه التشريعات كان «مؤلماً للعديد من الأفراد والأسر، لا سيما للمرأة، ومكّن البعض من التنصل من مسؤولياته، الأمر الذي لن يتكرر في حال إقرار هذه الأنظمة وفق الإجراءات النظامية».
وفي حديثه التلفزيوني الأخير، ضرب ولي العهد بعض الأمثلة التي توضح تعارض بعض الأوضاع القانونية الحالية مع التقاليد القانونية في الإسلام، فضلاً عن مخالفتها للتوجهات القانونية الحديثة. فخلافاً لمبدأ «لا جريمة أو عقوبة إلا بنص واضح»، وهو مبدأ مستقر على مدى التاريخ، نجد بعض الأحكام تصدر بعقوبات مغلظة ليس لها مرجع واضح في نصوص الشريعة أو القانون.
وضرب مثلاً آخر يتعلق بحق الدفاع عن المتهم، إذ كان التقليد في عصر النبوة قائماً على مبدأ عدم تشجيع المتهم على الاعتراف بارتكاب جُرم شرعي، بل حثه على الرجوع فيه، وفي حال إصراره على الاعتراف يتم البحث عن ظروف مخففة تعفيه من العقوبة أو تخففها. وبناء على ذلك المبدأ أصبح الادعاء الإسلامي معنياً بجمع وتقييم أدلة الإثبات وأدلة البراءة سواء بسواء، وموازنتها وتقديمها للقضاء. وبالمقابل، نجد التطبيق الحالي بعيداً عن ذلك المبدأ، إذ يكون البحث مركزاً على قرائن تسعى لتثبيت الإدانة لا البراءة من الجرم.
هذه المراجعة القانونية التي اهتم بها ولي العهد ستكون أحد أهم إنجازات رؤية 2030، وهي مراجعة شاملة للمبادئ والنصوص، وللقضايا الإجرائية والموضوعية معاً. وسيكون لها تأثير إيجابي على نوعية الحياة في المملكة العربية السعودية، وعلى تحقيق الأهداف التنموية للرؤية.
ويتوقع أن تصدر القوانين الأربعة خلال عام 2021، وهي جزء من عملية مستمرة لتطوير المنظومة التشريعية في المملكة، تأخذ بأحدث التوجهات القانونية والممارسات القضائية الدولية الحديثة، بما لا يتعارض مع الأحكام الشرعية، ويراعي التزامات المملكة فيما يخص المواثيق والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها.
ونظراً للمكانة الخاصة التي تحتلها المملكة العربية السعودية بين الدول العربية والدول الإسلامية، فإن هذه الإصلاحات قد تجد طريقها في الوقت المناسب إلى الدول الأخرى، فالأوضاع التي أشار إليها ولي العهد لا يقتصر وجودها على المملكة، بل توجد في الكثير من الدول. فهشاشة البيئة القانونية والقضائية في الدول العربية هي أحد أهم أسباب تراجع نمو الاستثمار فيها، وضعف الحماية القانونية هو أحد أسباب هجرة الشباب العربي إلى الخارج وعزوفهم عن الاستثمار في أوطانهم.
7:44 دقيقه
TT
تطوير القوانين السعودية والمعايير الدولية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة