دانييل غورديس
TT

حرب غزة عصفت بالسلام الإسرائيلي الداخلي الجديد

مع مواصلة حركة «حماس» الفلسطينية إطلاق صواريخها القاتلة على إسرائيل واستمرار الجيش الإسرائيلي في الرد بشن الضربات الجوية المهلكة داخل قطاع غزة، من الصعوبة للغاية أن نتذكر أنه قبل أسبوع واحد فقط من الآن، وبعد مرور عامين كاملين من الجمود السياسي الإسرائيلي الشديد، كانت إسرائيل على مشارف استقبال الحكومة الجديدة أخيراً التي طال انتظارها في البلاد.
وكان اللاعب الرئيسي في تلك الحكومة الجديدة هو حزب «رآم»، ذلك الحزب السياسي العربي الصغير والحديث، والمناهض للصهيونية.
ومع تقسيم نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بقدر متساوٍ بين أنصار رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو في مقابل أولئك الذين يرغبون في الإطاحة به تماماً (وهم أنصار «كتلة التغيير»، كما يطلقون على أنفسهم)، كان من الممكن، بصورة من الصور، للمقاعد الأربعة التي فاز بها حزب «رآم» في الكنيست الإسرائيلي أن تقوم مقام «رمانة الميزان» المنشودة في تحقيق التوازن السياسي المطلوب. كان نتنياهو يتودد خلال الفترة الماضية إلى حزب «رآم» ورئيسه منصور عباس منذ شهور، ولكن من دون نتيجة حقيقية تُذكر على ما يبدو. فلقد أعلن منصور عباس اعتزامه المضي قدماً والانضمام إلى يائير لابيد مرشح تيار الوسط رفقة نفتالي بينيت مرشح تيار يمين الوسط في الانتخابات الإسرائيلية، بهدف الدفع بمرشحي «كتلة التغيير» إلى رأس السلطة. وكانت جموع عرب إسرائيل تقترب للغاية من تحديد نتيجة الانتخابات الأخيرة داخل الدولة اليهودية.
وعلى الرغم من حملة الاعتراضات الكبيرة ضد الائتلاف الجديد من طرف تيار اليمين الإسرائيلي الديني المتطرف، فإن كثيراً من الإسرائيليين كانوا ينظرون إلى الطريقة الرائعة التي يعمل بها النظام الديمقراطي في بلادهم، لا سيما ما أعلن عنه الائتلاف السياسي الوليد من اعتزامه العمل على تحسين العلاقات بين المواطنين اليهود والعرب داخل المجتمع الإسرائيلي.
بطبيعة الحال، وكما هو معروف للجميع أن هذه العلاقات لم تكن أبداً سهلة، أو هينة، ومرجع ذلك في غالب الأمر إلى أن اليهود والعرب في إسرائيل يملكون وجهات نظر ورؤى متباينة أشد ما يكون التباين حول تحديد «ماهية» إسرائيل.
بالنسبة لليهود، فإن إسرائيل هي الدولة التي أقاموها على الرغم من كل الصعاب التي تحتم عليهم المرور بها وتجاوزها إثر عودتهم الأخيرة إلى أرض الأجداد بعد مرور آلاف السنين من النفي والشتات. أما بالنسبة إلى عرب إسرائيل، فدولة إسرائيل هي التي أسسها اليهود الذين جاءوا من كل أصقاع الدنيا وتعمدوا محو الهوية والهيمنة العربية في فلسطين ثم أقاموا دولة يكون العرب فيها مواطنين من الدرجة الثانية بحكم الأمر الواقع. وكان من الواضح عبر السنوات الطويلة الماضية أن إقامة مجتمع واحد متماسك بين هاتين الفئتين المتبانيتين من الأحلام مستحيلة التحقق على أي تصور أو منطق.
كانت فكرة المواطنة في إسرائيل من الأفكار المربكة والمشتتة للغاية لدى عرب إسرائيل لسبب أو لغيره. فلقد انتهى بهم الأمر، رغم كل شيء، لأن يعتبروا أنفسهم من المحظوظين لأنهم يعيشون هناك بالأساس. فخلال حرب الاستقلال الإسرائيلية في عام 1948، قرر كثير من السكان العرب في حيفا ويافا، وسواها من الأماكن الأخرى، الفرار بأنفسهم من القتال. وكانت خططهم تتمحور حول العودة إلى الوطن مرة أخرى بعد توقف أعمال العنف والقتال. ومع ذلك، فإن جموع المواطنين التي فرت من القتال أثناء الحرب تحولوا إلى مجرد لاجئين، ولا يزال أطفالهم ثم أحفادهم من دون جنسية معروفة تميزهم إلى حد كبير، وهم مشتتون بين لبنان أو سوريا أو الأردن أو الضفة الغربية. أما الفئة التي اعتبرت نفسها «سيئة الحظ» في حرب عام 1948، ممن كانوا غير قادرين على الفرار من القتال، فلقد صاروا مواطنين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وصارت لأبنائهم ثم لأحفادهم حقوق ومزايا يتمتعون بها لكونهم من مواطني دولة من بلدان العالم الأول، كما تُطلق إسرائيل على نفسها.
على الرغم من التحديات الهائلة التي تواجه الوحدة الوطنية داخل المجتمع الإسرائيلي، شعر كثير من المواطنين في إسرائيل خلال الآونة الأخيرة بأن هناك فعلاً أسباباً حقيقية تدعو إلى الأمل والتفاؤل. أثناء جائحة فيروس كورونا، كان الأطباء والممرضون العرب يقومون بواجبهم ويبذلون جهودهم على أكمل وجه في الخطوط الأمامية لمكافحة الوباء. كما أعرب المواطنون اليهود والعرب على حد سواء عن عميق شكرهم وامتنانهم على تلك الجهود الكبيرة، ونعمت البلاد للمرة الأولى منذ عقود بمشاعر تضافر الجهود وتوحيد العمل لأجل بلوغ هدف واحد ومشترك.
وجاءت اتفاقات أبراهام، التي شاركت فيها كل من الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، ثم تبعتها المملكة المغربية، ثم جمهورية السودان، لتشير إلى نهاية أكيدة للممانعة والرفض العربي لوجود إسرائيل، كما أنها سهلت الأمور كثيراً على عرب إسرائيل في الداخل. ولم يعد بالإمكان اعتبار قبول إسرائيل خيانة للعالم العربي. كما شرع عرب إسرائيل في الاهتمام بالعملية السياسية الداخلية للدرجة التي كانوا معها قاب قوسين أو أدنى من تحديد شخصية رئيس الوزراء الإسرائيلي المقبل للمرة الأولى منذ تأسيس دولة إسرائيل.
أما الآن، فلقد عصفت الأحداث المريعة الراهنة بكل أسباب الأمل والتفاؤل واستبدلت بها مشاعر الغضب، والسخط، والخيانة. إذ امتدت الحرب الجارية بين الجيش الإسرائيلي وحركة «حماس» الفلسطينية إلى المدن الإسرائيلية التي كانت معروفة من قبل بأنها أمثلة حية على التعايش السلمي داخل المجتمع الإسرائيلي. لقد بلغت أعمال العنف ما بين العرب واليهود في الداخل مستويات مروعة وغير مسبوقة. وتشكلت عصابات القتل والنهب والترويع على كلا جانبي الصراع. وتعرضت المعابد اليهودية للحريق والدمار، الأمر الذي أيقظ في المخيلة الإسرائيلية صور المذابح القديمة التي طالما ارتبطت منذ فترة طويلة بالوجود اليهودي الأول في أوروبا، وليس بالدولة اليهودية نفسها. كما تعرضت الأعمال التجارية لدى الجانبين للخراب والدمار. وبات المواطنون اليهود والعرب، سواء بسواء، يخشى كل منهم على نفسه وعلى أسرته من مجرد مغادرة منزله. إنهم المتطرفون الدينيون من كلا الفريقين، غير أن الانقسامات الداخلية القديمة هي أوسع نطاقاً وأعمق جذوراً، ما قد توحي به شراذم قليلة من عناصر العنف والتطرف والكراهية.
فلقد ضاعت سيادة القانون تماماً في شوارع مدن كبيرة من شاكلة يافا، أو اللد، أو سواها من المدن الأخرى، وبرهنت الأحداث الأخيرة الجارية على فقدان الشرطة الإسرائيلية (التي تعاني بالأساس من نقص كبير في التمويل مع الافتقار إلى القيادة الحازمة خلال السنوات الماضية) للمقدرة الكاملة لقمع أعمال العنف والسيطرة على الانفلات الأمني الكبير. وصار كثير من المواطنين الإسرائيليين المعتدلين الآن يسألون أنفسهم: هل كنا حقاً ساذجين طوال السنوات الماضية عندما تصورنا أنه يمكن للمواطنين اليهود والعرب أن يتعايشوا معاً وسلمياً ويتشاركون معاً أراضي هذه الدولة الصغيرة؟
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»