نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

يا مشكّكي المناخ: ابحثوا عن وظائف جديدة

القمة المناخية التي استضافها الرئيس الأميركي جو بايدن حركت المياه الراكدة. والدلائل تشير إلى أنها ليست حركة عرضية لأنها تمخضت عن التزامات محددة رُبطت بمواعيد تجاوزت ما كان منتظراً. وقد يكون أقوى دليل على الجدية أن الولايات المتحدة بدأت بنفسها، حين التزم الرئيس بايدن بتخفيض الانبعاثات الكربونية إلى النصف بحلول سنة 2030؛ أي ضعف الالتزام الأميركي السابق، مع الوصول إلى «صفر كربون» سنة 2050.
وكان لافتاً أنه في حين لم تنجح محاولات عقد قمة سياسية أميركية مع الصين أو روسيا منذ وصول بايدن إلى الرئاسة، شارك الرئيسان الصيني جينبينغ والروسي بوتين في القمة المناخية، ليكون هذا أول لقاء لهما مع الرئيس الأميركي الجديد. وكان لافتاً أيضاً أنه حين انسحبت إدارة ترمب من اتفاقية باريس المناخية، لم تتبعها أي دولة أخرى، بينما نجح بايدن في استقطاب اهتمام عالمي فوري حول مبادرته، ظهر جلياً في الاستجابة الشاملة والالتزامات المتجددة بالعمل المناخي.
كان ترمب يسعى إلى استقطاب الدول العربية المصدرة للنفط إلى معسكره الرافض لاتفاقية المناخ، المشكك بالتغيُّر المناخي من الأساس، لكن هذه الدول فضلت البقاء في جبهة الإجماع العالمي، فعززت التزاماتها المناخية، وأطلقت برامج كبرى لتخفيض الانبعاثات الكربونية، بتعزيز الكفاءة وإدخال المصادر المتجددة بصفتها جزءاً أساسياً في مزيج الطاقة، في موازاة تنويع اقتصادها استعداداً لعصر جديد. لقد تيقنت هذه الدول أن ترمب حالة عابرة، بينما التغيُّر المناخي حقيقة علمية ثابتة. وقد بنى قطاع الأعمال حساباته على هذا الأساس أيضاً، فاستمر بتحويل عملياته في اتجاه تخفيض الانبعاثات الكربونية. كما فشل ترمب في استقطاب الاستثمارات الجديدة إلى مناجم الفحم الحجري الأميركية، حتى بعد تحريره من القيود البيئية.
التزامات إدارة بايدن غير المسبوقة بتخفيض الانبعاثات الكربونية ترافقت مع الإعلان عن برنامج عملي للتنفيذ يقوم على ثلاث ركائز: أولاً الكفاءة والطاقة المتجددة؛ ثانياً التحوُّل إلى السيارات الكهربائية، أكانت تعمل بالبطاريات أم بخلايا الطاقة الهيدروجينية؛ ثالثاً التقاط الكربون وإعادة استعماله أو تخزينه بطرق مأمونة.
وتَرافق هذا مع وعد بايدن بالتحول إلى الاقتصاد الأخضر الذي سيخلق الوظائف المجزية الثابتة. وقد شدد على هذا في خطابه الأسبوع الماضي أمام الكونغرس، بمناسبة مرور مائة يوم على ولايته، بقوله: «حين أفكر بتغيُّر المناخ، أفكر بالوظائف. ليس هناك من سبب يمنع العمال الأميركيين من قيادة العالم في تصنيع السيارات الكهربائية والبطاريات».
وبرزت دعوة من وزيرة الطاقة الأميركية إلى السعودية لمشاركة الولايات المتحدة في تحالف دولي لتطوير تطبيقات التقاط الكربون وتخزينه. وكانت السعودية قد أطلقت في قمة العشرين التي استضافتها قبل شهور في الرياض مبادرة «اقتصاد الكربون الدائري» التي تقوم على تخفيض الانبعاثات الكربونية، والتقاط المتبقي منها لإعادة استعماله في عمليات غير ملوثة، وتخزين الفضلات بأساليب مأمونة. وعدت هذه أكثر الخطط واقعية وتكاملاً للتعامل مع الكربون ومنع تسرُّبه إلى الجو.
وقد رفعت دول الاتحاد الأوروبي التزاماتها بخفض الانبعاثات الكربونية إلى 55 في المائة بحلول سنة 2030، وصولاً إلى «صفر كربون» قبل موعد 2050 بخمس سنوات. والهند وروسيا، وهما بين طليعة البلدان المسببة للانبعاثات، جددتا الالتزام، ولكن لم يحسنا في الأرقام. أما الصين، الملوث الأكبر اليوم، فتعهدت بتسريع العمل لتقليل اعتمادها على الفحم الحجري في إنتاج الكهرباء، وتعميم الطاقات المتجددة ووسائل النقل الكهربائية، وصولاً إلى «صفر كربون» سنة 2060. وفي حين وعد الرئيس الصيني بمساعدة الدول الفقيرة في مواجهة التحديات المناخية، تجاهل ذكر مئات مصانع إنتاج الكهرباء بالفحم الحجري التي تبنيها الصين حول العالم. وما زالت الصين تحاول أن تختبئ وراء الدول النامية في مجموعة الـ77 التي كانت من مؤسسيها، مطالبة بمعاملة تفضيلية تقوم على تطويل المدد الزمنية، وتخفيض الالتزامات، في وقت أصبحت فيه قوة صناعية عظمى، وتجاوزت انبعاثاتها الكربونية ضعفَي الولايات المتحدة. لكن قمة بايدن فتحت باب المنافسة المكشوفة بين الدول التي يبقى عليها إثبات جديتها والتزامها بتعهداتها في قمة غلاسكو بعد شهور لتعزيز العمل المناخي الدولي تكنولوجياً وتمويلياً.
عقب انتهاء القمة المناخية، طلبت مني محطة تلفزيونية أميركية المشاركة في حوار عن نتائجها مع باحثَيْن من مركزَيْن للدراسات في الولايات المتحدة. في الماضي، كنت أشعر بالحرج في مواقف كهذه، لاضطراري إلى تبرير غياب المبادرات العربية، وضعف المساهمة في المساعي المناخية الدولية. هذه المرة شعرت بالاعتزاز لأنه كان لديّ الكثير لأقوله عن مبادرات عربية جدية في العمل المناخي، عبرت عنها مشاركة السعودية والإمارات في القمة، حيث قدمتا عرضاً لإنجازات حقيقية وخطط مستقبلية طموحة مرتبطة ببرنامج زمني.
وهذه تبدأ بالتحول الاقتصادي والاجتماعي المتوازن الذي يستثمر الموارد الطبيعية بحكمة حفاظاً على استمرار التنمية واستدامتها. تحدثتُ بفخر عن برامج زرع 50 مليار شجرة، وحماية المناطق الساحلية والبيئة البحرية لامتصاص الكربون، والتحوُّل الكامل إلى الطاقة النظيفة والمتجددة، وإدارة المياه بكفاءة لمواجهة الجفاف، واعتماد اقتصاد أخضر متنوع يخلق ملايين فرص العمل المستدامة للشباب. كما تخوض دول أخرى، مثل مصر والمغرب، مبادرات واعدة.
أحد المحاورين الأميركيين شكك في خطة بايدن، مدعياً أنها ستقضي على القدرة التنافسية للاقتصاد الأميركي، كما وجد في التوقعات الكارثية لآثار التغيُّر المناخي مبالغة كبيرة، مدعياً أن لا إجماع علمياً عليها. وقد تجاهل إدخال الكلفة الناجمة عن التلوُّث في حسابات الربح والخسارة.
وكان عليّ تذكيره بتقارير صدرت في الماضي بتوقيع أشخاص يحملون ألقاباً علمية، تدعي عدم وجود إثباتات دامغة لمضار التدخين وآثاره الكارثية على صحة الإنسان، ليتبين أن مؤلفيها كانوا يتلقون تمويلهم من شركات التبغ. لكن أثر مشككي تغيُّر المناخ اليوم، كما مشككي مضار التدخين بالأمس، أصبح هامشياً، إذ لا يتجاوزون 2 في المائة من المجتمع العلمي الأميركي. والواضح أن هؤلاء يخوضون معركتهم الأخيرة، بعد التيار الجارف الذي حرَّكه بايدن.
يوم انتخب دونالد ترمب رئيساً، تنفس بعض الحرس القديم في البلدان العربية الصعداء، معتبرين أن العمل المناخي انتهى. وقد كتب أحدهم آنذاك، وهو مثل بلده لسنوات في مفاوضات المناخ، وكان جل ما أنجزه التعطيل والعرقلة، أن «وصول ترمب وضع حداً نهائياً لأوهام تغيُّر المناخ، وعلى أمثال نجيب صعب أن يجدوا عملاً آخر غير المناخ والبيئة». من حسن حظ صديقي أنه تقاعد قبل هذا الزمن، لأنه ما كان ليجد اليوم من يوظفه، بعد أن أصبح العمل المناخي على رأس جدول الأعمال.