جون أوثرز
كاتب من خدمة «بلومبرغ»
TT

«كوفيد ـ 19» وضع الحياة في مواجهة الحرية

يوجد الصراع بداية من الكلمات الاستهلالية الأولى للوثيقة التي أسست الولايات المتحدة الأميركية، والتي تنص على أنَّ لكل فرد الحق في «الحياة والحرية والسعي نحو السعادة». في الواقع، لا يكاد يوجد من يعترض على إعلان المبادئ الذي أطلقه توماس جيفرسون ـ لكن ماذا يحدث عندما تدخل الحياة والحرية في صراع؟
من الواضح أنَّه يجب أن يكون للحرية بعض الحدود. في الوقت ذاته، فإنَّ وباء فيروس «كورونا» المستجد الذي شكل تهديداً للحياة، وكان من المتعذر محاربته سوى من خلال إجراءات جماعية لم يوافق عليها البعض، كشف النقاب عن أن القليلين فقط داخل العالم الغربي يدركون أين ينبغي وضع مثل هذه القيود، أو حتى ما يعنيه الأمر حقاً عندما يتحدثون عن الحرية.
في المقابل نجد أن الصين التي تشدد الفلسفة الكونفوشية السائدة بها على الحياة والتناغم الاجتماعي، أظهرت كيف أنه يصبح أسهل كثيراً على الحكومات حماية الأرواح إذا ما تجاهلت الحريات الفردية.
في يناير (كانون الثاني) 2020، وبعد ظهور مجموعة من حالات الإصابة بفيروس «كورونا» داخل هيبي، التي تحيط بكين، أعلنت السلطات «حالة الحرب» بمجرد أن بلغ عدد الإصابات 600.
وأعقب ذلك حالة إغلاق فعلي، وجرى حشد حوالي 20 ألف مقيم بالقرى النائية داخل حافلات ونقلهم إلى منشآت حجر صحي. واضطر سكان ثلاثة مدن يقدر إجمالي عددهم بحوالي 17 مليون نسمة داخل البنايات التي يسكنونها طوال الوقت، وسكان عاصمة الإقليم، شيجياتشوانغ، البالغ عددهم 11 مليون نسمة، للخضوع إلى تحليلين إجباريين بخصوص فيروس «كوفيد - 19» كل أسبوع. وجال رجال يرتدون بزات واقية عبر شوارع خالية ورشوا في أرجائها مواد مطهرة. وجرى إغلاق أبواب الشقق السكنية من الخارج بعد توصيل السلطات حزم خضراوات تكفي خمسة أيام، في الوقت الذي افتقرت الكثير من المنازل لوجود أجهزة تبريد أو أفران.
بحلول نهاية الشهر، بلغت أعداد الإصابات 865 حالة. وعاودت خدمة القطارات عملها بعد توقف دام 34 يوماً، وبدأت الأمور تعود إلى طبيعتها.
ويمكننا القول إن هذا ما يحدث عندما تتقدم الحياة على الحرية. أما في الغرب، حيث لا تحظى الحياة بالوضع ذاته، صدرت أوامر مرهقة، لكن أكثر تساهلاً، بضرورة التزام المنازل، والتي انتهت بشكل عام قبل القضاء على الجائحة.
جدير بالذكر في هذا الصدد أنه في الثاني من مارس (آذار)، بعد شهر من إغلاق هيبي، أعلن حاكم تكساس غريغ أبوت أن ولايته أصبحت «مفتوحة بنسبة 100 في المائة». واعترف أبوت أن «كوفيد - 19» لا يزال يمثل خطراً، لكنه رفض فرض مزيد من التعديات على الحرية.
وقال الحاكم: «لكل فرد دور يلعبه في الحفاظ على سلامته الشخصية وسلامة الآخرين. ومن خلال هذا الأمر التنفيذي، نضمن أن لجميع النشاطات التجارية والأسر داخل تكساس حرية تحديد مصيرها». يذكر أن تكساس أعلنت عن 7.750 إصابة جديدة خلال الأسبوع الماضي.
المعروف أن تكساس ولاية تشتهر بنزعتها الفردية، ومع ذلك فإنها لم تكن خارجة عن المألوف في ذلك، فرغم أن إجراءات الإغلاق خلال عام 2020 كانت صارمة بما يكفي لإحداث ركود اقتصادي حاد، لكنها أثارت في الوقت ذاته معارضة قوية. أما العنوان العالمي لهذه المعارضة فكان أن الحرية تتعرض لانتهاكات.
وداخل المملكة المتحدة، قادت مجموعة تنتمي لأحزاب مختلفة تطلق على نفسها «ابقوا بريطانيا حرة»، مظاهرات بالنيابة عن «ملايين الأشخاص الذين يرغبون في التفكير لأنفسهم وتحمل مسؤولية حياتهم». كما خرجت مظاهرات عنيفة في ألمانيا حملت لافتات تقول: «الحرية ليست كل شيء، لكن من دونها كل شيء لا قيمة له».
ورغم أنه ثارت جدالات حول ما إذا كانت إجراءات الإغلاق ناجحة بالفعل في التصدي للوباء، وما إذا كانت التكلفة الاقتصادية المروعة مبررة، ظلت النقطة الرئيسية أن معظم الغربيين اعتبروا الإغلاق الذي حدث في هيبي عملاً غير أخلاقي رغم نجاحه في كبح جماح الفيروس، لأنه انتهك حرية الأفراد. ومن وجهة نظر هؤلاء، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
والآن، إذا كانت الحرية على هذه الدرجة الكبيرة من الأهمية، فما هي ماهيتها على وجه التجديد، ومن أين تنبع؟
المثير للدهشة أن الحرية تتميز بتاريخ حديث نسبياً، ذلك أن أياً من الإغريق القدامى ولا أنبياء اليهود طرح تصوراً عظيماً بشأنها، ولا التقاليد الآسيوية العريقة. بدلاً عن ذلك، نجد أن عقيدة الحق في أن يكون المرء حراً تعود إلى الاضطرابات التي ضربت إنجلترا في القرن الـ17 وأسفرت عن مقتل ملك والإطاحة بآخر. كانت البلاد قد رفضت فكرة النظام الملكي المطلق القائم على الحق الإلهي، وطرح الفيلسوف جون لوك نظاماً جديداً ليحل محله.
آمن لوك بالحقوق الطبيعية في الحياة والحرية والملكية، لكن كي يصبح الرجال أحراراً، رأى لوك أنه من الضروري أن يسمحوا للآخرين بأن يكونوا أحراراً هم أيضاً. وعليه، فإنه تبعاً لهذه الصيغة، لم تتضمن الحرية الحق في «إيذاء الآخر في حياته أو صحته أو حريته أو ممتلكاته»، وتضمنت واجب «الحفاظ على باقي البشرية».
ومن ذلك الحين، انصب اهتمام الكثير من الفلاسفة على مسألة الوصول إلى التوازن الصحيح ما بين الحرية الفردية والواجب الاجتماعي. وبمرور الوقت، تحولت أفكار لوك إلى الفلسفة المؤسسة للولايات المتحدة، مستعمرة إنجلترا المتمردة، وليس وطن لوك نفسه. وتحولت جهود تعريف الحرية التي روج لها لوك إلى الجدال الرئيسي المحوري داخل الولايات المتحدة على امتداد تاريخها. وأثبتت الأيام أن الوصول إلى هذا التعريف ينطوي على درجة خيالية من الصعوبة.
من جانبه، طرح أشعيا برلين، الذي كان بروفسوراً بجامعة أكسفورد والذي فرّ برفقة عائلته من الاتحاد السوفياتي عندما كان طفلاً، خطاباً شهيراً ميز خلاله بين نمطين من الحرية. يشير النمط الأول إلى الحرية «السلبية»، وتعني الحرية من التدخل وحرية أن يترك المرء بمفرده ولحاله. وكانت هذه النسخة من الحرية الدافع المحرك لجيفرسون وباقي الآباء المؤسسين، بجانب أنها بمثابة العلم الذي يرفعه اليوم رافضو القيود المرتبطة بجهود مواجهة الجائحة.
أما النمط الثاني من الحرية تبعاً لبرلين فهو الحرية «الإيجابية»، ويشير إلى حرية المرء في فعل ما يرغبه. وكان هذا على وجه التحديد ما قصده الثوريون الفرنسيون عندما دعوا إلى «الحرية والمساواة والإخاء». ويعتبر هذا التصور للحرية الدافع المحرك وراء معارضي إجراءات الإغلاق من أنصار تيار اليسار، والذين يدفعون بأن الحجر الصحي ظالم لأولئك الذين يتعذر عليهم العيش دون مصدر دخل، وليس في استطاعتهم العمل من المنزل.
اللافت أن برلين نفسه عارض الحرية الإيجابية، وأعرب عن خشيته من أن تتحول إلى حصان طروادة الذي يسمح بزحف نمط الشمولية الذي عاينه في شبابه.
اليوم، وبعد عام من الغضب، لم يقترب الغرب من وضع تعريف لحدود الحرية. وانتهى الحال بأغلب الدول إلى حلول وسط أخفقت في كسب رضا أي من الأطراف المختلفة، وذلك مع فرض إجراءات إغلاق صارمة بما يكفي للتسبب في شقاء وتعاسة الكثيرين، لكنها تظل عاجزة عن تقويض الجائحة والحيلولة دون حصدها أعداداً مخيفة من الضحايا. ويبدو هذا الوضع في مجمله مثيراً للإحباط، في الوقت الذي تترك الإجراءات الحكومية خلال فترة الجائحة أسباباً مشروعة للغضب والاعتراض. ومع ذلك، ورغم تحول الحرية إلى الشعار الأكبر لهذا الغضب، من غير الواضح حتى الآن ما إذا كان المنادون بها مدركين لماهية الحرية التي يرغبونها أو حتى ما إذا كانت الحرية بالفعل هي ما يرغبونه من الأساس.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»