د. ياسر عبد العزيز
TT

كيف يتعامل الإعلام مع التسريبات؟

كان الأسبوع الماضي أسبوع التسريبات في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ انشغل المجالان الإعلامي والسياسي بوقائع تسريبين مهمين؛ أولهما يخص دولة الكويت الشقيقة، وثانيهما يتعلق بإيران.
التسريب الأول، ينتمي إلى حزمة من التسريبات أثارت ضجة كبيرة عند إذاعتها في العام الماضي، وعُرفت آنذاك بـ«تسريبات خيمة القذافي»، وهي محادثات جرت في خيمة الزعيم الليبي السابق مع شخصيات سياسية وفكرية ونشطاء عرب قبل إطاحته بسنوات. وحصل نشطاء على «السوشيال ميديا» على تلك المحادثات، وقاموا ببثها عبر الوسائط، لتفجر فضائح وجدلاً وتثير تداعيات ما زالت تخطف الأبصار وتستحوذ على الاهتمام حتى يومنا هذا.
وفي الأسبوع الماضي، قضت محكمة جنائية كويتية غيابياً بالسجن مدى الحياة على الأكاديمي الكويتي، المحسوب على تنظيم «الإخوان»، حاكم المطيري، استناداً إلى ما ورد في تلك التسريبات من طلبه تمويلاً من العقيد القذافي، لإقامة مشروع إعلامي يعمل على «بث القلاقل والاضطرابات وزعزعة الاستقرار» في الكويت وعدد من بلدان المنطقة، بغرض إطاحة حكوماتها، ضمن مشروع «التمكين الإخواني».
أما التسريب الثاني فقد كانت له تداعيات سياسية أكبر وأعمق، وهي تداعيات امتدت لتصل إلى عواصم كبرى خارج المنطقة، وتكشف أسراراً خطيرة تتعلق ببنية الحكم في الجمهورية الإسلامية (الإيرانية)، ومساحة الدور الذي تلعبه الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري» في ميادين الدبلوماسية والمفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني أو أدوار طهران الخارجية المثيرة للجدل.
إذ حصلت قناة «إيران إنترناشيونال»، التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها، على ملف صوتي يتحدث فيه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف عما عدّه «تدخلاً عسكرياً في القرارات الحكومية» لبلاده، و«تضحيات بالدبلوماسية من أجل الميدان»، وأنشطة متجاوزة وسلبية قام بها الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» السابق، والمسؤول عن ذراع العمليات الخارجية لـ«الحرس الثوري»، قبل أن تقتله الولايات المتحدة في غارة جوية العام الماضي.
ويكتسب هذا التسريب أهمية كبيرة في وقت تستعد إيران لتنظيم انتخابات رئاسية في الشهر المقبل، لأنه كشف عن انشقاق واضح في جسم السلطة في الجمهورية الإسلامية، وأشار إلى «تغول الأنشطة الميدانية على حساب الدبلوماسية»، وعزَّز اليقين في أن صراع الأجنحة الدائر على السلطة في طهران يعد أحد أهم أسباب تعذر الوصول إلى اتفاقات متوازنة فيما يخص الملف النووي الإيراني ودور طهران الإشكالي الذي يؤثر في استقرار المنطقة وأمنها.
بعيداً عن الآثار السياسية والتداعيات المهمة لهذين التسريبين على مواقف الأطراف الضالعة في الحالة الإيرانية والحالة «الإخوانية»، ثمة جانب مهم من الناحية الإعلامية، هو الجانب المتعلق بطبيعة عملية إذاعة التسريبات نفسها، وما إذا كانت تتسق مع الاعتبارات الأخلاقية ومع قواعد العمل الصحافي الرشيد.
بدايةً، من الضروري تأكيد الحق في الخصوصية، واحترام حق الأطراف في عدم إذاعة أي تصريحات أو مواد من دون موافقة صريحة من أصحابها، لكنّ هذا الحق لا ينهض وحده كافياً لغلّ أيدي وسائل الإعلام عن إذاعة التسريبات التي تكشف فساداً أو جرائم أو تتقاطع بوضوح مع المصلحة العامة.
فمن حق وسائل الإعلام أن تنشر الأنباء والمواد التي تحصل عليها عبر التسريبات، بشرط أن تقع في إطار اهتمامات الجمهور، وأن تتعلق بمصلحة عامة واضحة، وأن يكون النشر هو الوسيلة الوحيدة الباقية لإثارة القضية، من أجل تصحيح الأوضاع التي نجمت عن المخالفات التي تكشفها التسريبات.
ومع ذلك، فإن ثمة اعتبارات من الضروري أيضاً احترامها عند إذاعة مثل تلك التسريبات، ومنها: عدم نزع تسريب معين من سياقه، أو تأويله على نحو غير ملائم لإثبات استنتاج افتراضي، فضلاً عن ضرورة حذف أي إفادات تتعلق بالحياة الخاصة لأطراف تلك التسريبات ما دامت لا تمتّ بصلة للشأن العام.
سيكون من الضروري أيضاً إتاحة الفرصة لأطراف تلك التسريبات لشرح مواقفها حيالها أو نفيها، على أن تتم الإشارة إلى تلك المواقف حال الإذاعة أو النشر.
وإجمالاً، فإن أي تسريب لا يكشف وقائع تؤثر بوضوح في المصلحة العامة، ولا يقود إلى فتح تحقيق أو محاكمة، أو يوفر الأسباب الموضوعية لذلك، لا يتوافق مع الاعتبارات المهنية والأخلاقية.
لا يمكننا أن نغلّ يد المسرّبين على الإطلاق، وإلا ما عرفنا شيئاً عن سجن «أبو غريب»، أو تنصّت الإدارة الأميركية على زعماء ومسؤولين، أو فضائح سياسية لزعماء وساسة، ولا يمكننا أن نوافق على عرض كل تسريب، إلا إذا اتفق مع تلك المعايير الأخلاقية والمهنية.