علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

مثقفون يحرّمون على حكوماتهم ما يبيحونه لأنفسهم!

قبل عامين أو ثلاثة كنت قرأت كتاب سفر الحوالي «العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة»، فوجدت أنه تحدث عن رواية «الشيخ والبحر» لأرنست همنغواي ليس بتلك الخفة وذلك التعالي الصبياني، كما في إجابته عن سائله عنها.
فهي عنده في هذا الكتاب المثال الثاني لأدب الضياع في الأدب الغربي. وكان مثاله الأول رواية «القضية» لكافكا، ومثاله الثالث رواية «الساعة الخامسة والعشرون» لكونستانتان جيورجيو.
في حديثه عن رواية «الشيخ والبحر» قدم ملخصاً لموضوعها. ثم ختم تلخيصه لموضوعها بهذا الرأي: «وكما صور همنغواي أزمة الحضارة البشرية وأزمته الشخصية فقد تقمص شخصية الشيخ الخاسر، وآثر أن يغادر الحياة بعد أن ظهرت له أعراض الكارثة، ولم يجد وسيلة إلا أن يبادرها بالانتحار».
وهمش لهذا الرأي بهامش، قال فيه: «انتحر همنغواي سنة 1961 (انظر مجلة «العربي» عدد 52) القصة ترجمها: منير البعلبكي».
عدت لعدد مجلة «العربي» الذي أحال إليه، فإذا هو صادر في 1 مارس (آذار) 1963. والموضوع الذي يتعلق بأرنست همنغواي منشور في باب ثابت من أبواب المجلة، وهو باب «نقد كتاب الشهر»، وعنوان الموضوع هو «الإنسان والكاتب الذي خَلد بحياته وأسلوبه: أرنست همنغواي»، وكاتبه كان الدكتور محمود السمرة.
بعد أن قرأت الموضوع لم أفهم لماذا أحال سفر الحوالي إليه، فهو ليس تغطية خبرية لانتحار همنغواي، إذ إنه منشور بعد سنة وسبعة أشهر وما يقرب من الشهر من انتحار همنغواي؟
والموضوع الرئيس فيه ليس انتحار همنغواي، فموضوعه الرئيس هو ما قاله العنوان الذي وضعه الدكتور محمود السمرة.
والأهم من هذا وذاك أن ما كتبه السمرة لا يعزز رأي سفر الحوالي، فهو قد قال في مراجعته النقدية لكتاب ليستر همنغواي (شقيقي همنغواي): «وكتاب ليستر همنغواي عن شقيقه مفيد للدارسين عن جوانب من حياته كانت خافية، لا سيما ما يتعلق منها بطفولته، ثم بمرضه الأخير الذي جعله يقدم على الانتحار: فالواضح من هذا الكتاب أن همنغواي كان في آخر حياته مريضاً حقاً: فمن مرض السكر، إلى مرض الكبد، إلا الآلام المبرحة التي تركتها في جسده مغامراته السابقة في الحرب، وأدغال أفريقية، والبحر الكاريبي».
إن ربط سفر الحوالي انتحار همنغواي بأزمة الحضارة البشرية (ويقصد بها الحضارة الغربية)، هو ربط متكلف، فعائلة همنغواي شيمة بعضها الانتحار، فأخوه ليستر الذي راجع محمود السمرة كتابه، وأبوهم كلارنس كانا من ضمن أفراد العائلة المنتحرين. فإدمان الكحول والمخدرات والإصابة بالأمراض الجسمانية والاكتئاب النفسي هي العامل الأساسي في مصيرهم المأساوي.
بعد أن قرأت ما كتبه سفر الحوالي في كتابه عن العلمانية عن رواية «الشيخ والبحر» سألت نفسي: لماذا لم يجب سائله بمثل الحديث الذي تحدث به عنها في كتابه، والذي يتسم بالرزانة والرصانة؟
وبعد إطالة التفكير في هذا السؤال، تذكرت في يوم من الأيام أنه في تلك الفترة الزمنية التي ألقى سفر الحوالي محاضرته فيها، أن الدكتور عبد الوهاب المسيري، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة الملك سعود كان يكثر الكلام عنها في مقالات صحافية، وفي أحاديث إذاعية إلى حد أنه قرأها طولاً وقرأها عرضاً. فصنع كلامه الكثير عنها دعاية عريضة لها عند بعض الصحويين.
سفر الحوالي أدرك أن مبعث السؤال هو أحاديث المسيري الكثيرة عنها، فأراد أن يزهد السائل ومعه جمهور المحاضرة ومن سيستمعون لشريط تسجيلها فيها، وذلك من خلال تحقيرها مضموناً وسعراً!
بالمناسبة رأي المسيري في الرواية الختامي أو الغائي لا يبعد كثيراً عن رأي سفر الحوالي فيها الذي قاله في كتابه عن العلمانية. والفرق بينهما أن الأول يصدع بإعجابه، وافتتانه الكبير بها، والثاني يكتمه ويخنقه.
في العام الذي تعين عبد الوهاب المسيري فيه أستاذاً في قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود، وهو عام 1983م، كان قبلها بأعوام قليلة، تحديداً ما بين عامي 1978 و1979، حدث في الوسط اليساري العربي، بشيوعييه وقومييه، وبأعداد كبيرة، غالبيتهم من اللبنانيين والفلسطينيين والمصريين، تحول فكري تجاه تيار الإسلاميين بسبب نجاح الثورة الإسلامية في إيران وهيامهم بها. وعزز من هذا التحول الفكري الجديد نحو هذا التيار اتساع قاعدة جماهيره بوتيرة متصاعدة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي ابتداءً من أول الثمانينات الميلادية وما بعدها.
من هؤلاء من تحوّل - مسلمين ومسيحيين - إلى إسلاميين، ومنهم تردد في أن يكون إسلامياً قحاً، ومنهم من تباطأ كثيراً في أن يكون إسلامياً، ومنهم من نكص عن هذا التحول.
مراكز البحوث والدراسات القومية، على رأسها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، حرصت من عام 1980 وطيلة سنوات الثمانينات الميلادية في ندوات فكرية سياسية على مد الجسور مع فكر كانوا يصفونه بالرجعية والظلامية، وكانوا يتهمون أصحابه بأنهم أدوات بيد الاستعمار والإمبريالية. وذلك بهدف استثمار ما سماه المفكر القومي منح الصلح «إسلام الجماهير» من قبل ما سماه «عروبة الطلائع»، أو بتعبير آخر «الطليعة الثورية» للظفر بتغييرهم الثوري المنشود في قلب الأوضاع السياسية القائمة في العالم العربي.
طيلة تلك السنوات المذكورة بحثوا عن صيغة توافقية بين تيارات علمانية، كالتيار القومي والتيار الماركسي والتيار الليبرالي، وبين تيار ديني، كالتيارات الإسلامية، إخوان مسلمين، وغير إخوان مسلمين.
في تلك الندوات كان يمثل التيار الإسلامي أسماء تنتمي للفئة الأولى والفئة الثانية، وكانت أسماء يسارية متحولة، ويمثله أسماء أخرى تنتمي لاتجاه إسلامي ليبرالي، لكن الإسلاميين الخلص في معظم سنوات ذلك العقد الذي حددت تاريخه لم يكونوا طرفاً في هذا الحوار العلماني/ الديني، لأنهم لم يرغبوا في أن يكونوا طرفاً فيه.
وقد قبلت أسماء مهمة منهم المشاركة في هذا الحوار في أواخر عقد الثمانينات الميلادية، وقد كانت البداية في ندوة «الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي»، التي عقدها منتدى الفكر العربي في عمان بتاريخ: 14 – 16/ 3/1987.
في كتب ومجلات سياسية فكرية صدرت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي كنت قرأت بعضها تتردد لدى المثقفين غير الإسلاميين إدانة للأنظمة السياسية العربية التي تحمل طابعاً علمانياً وحتى الأنظمة السياسية التي تحمل طابعاً دينياً محافظاً لتقاربها مع التيار الإسلامي ودعمه ومساندته، لكنهم كانوا يغضون النظر عن تياراتهم العلمانية المعارضة لحكومات بلدانهم التي سعت سعياً حثيثاً من أول الثمانينات الميلادية لعقد تحالف سياسي ثوري انتهازي مع التيار الإسلامي باسم الحوار القومي الإسلامي، قدموا فيه تنازلات لا تقل عن التنازلات التي قدمتها حكوماتهم للتيار الإسلامي.
مثل هذا التناقض لا يفطن إليه هؤلاء، لأنَّ من طبائع المثقفين الراديكاليين - ويا للأسف - أنهم يحرمون على حكوماتهم ما يبيحون لأنفسهم فعله.
ما تقدم هو الخلفية التاريخية القريبة لقصة تحالف اليسار، بقومييه وشيوعييه، مع الإسلاميين القائم الآن منذ مطلع التسعينات، وقد سردتها باقتضاب شديد. ولا يفوتني هنا أن أنبه أن ليس كل من شارك من المثقفين العرب في مد الجسور مع الإسلاميين كان محكوماً بغاية ثورية انقلابية، وأن أنبه أن عدداً منهم كان موقفه صارماً وحاسماً في مواجهة أطروحات الإسلاميين الجدد المتحولين من اليسار، وأطروحات الإسلاميين الليبراليين، ولم يساوم ولم يتنازل.
أطلق في الوسط الثقافي في مصر على المثقفين المصريين المتحولين من اليسارية إلى الإسلامية اسم «التراثيين الجدد». في الكلمة التي ألقاها محمد عمارة في الندوة العلمية الأهلية للاحتفاء بالمستشار طارق البشري، بمناسبة انتهاء ولايته القضائية بمجلس الدولة المصري، قال محمد عمارة: «أطلق علينا الماركسيون نحن الثلاثة (يقصد نفسه ويقصد طارق البشري وعادل حسين) لقب (التراثيون الجدد) ولو أنصفوا لقالوا: التراثيون المجددون وليس التراثيين الجدد».
الصحيح في قوله فقط هو أن الماركسيين هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم لكنهم لم يحصروهم في تلك الأسماء الثلاثة، وإن عدوه هو من ضمنهم.
من أين أتى محمد عمارة بالتضليل الأخير؟
أتى به من محاضرة ألقاها محمود أمين العالم بلجنة الدفاع عن الثقافة القومية، نشرها أول مرة مسلسلة في جريدة «القبس» الكويتية في الشهرين الأخيرين من عام 1984.
موضوع المحاضرة كان مناقشة نقدية لأبحاث قدمت في ندوة ضخمة، هي ندوة «التراث وتحديات العصر»، أقامها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة بتاريخ 24 - 27 سبتمبر (أيلول) 1984. في السطور الأخيرة من المقال الثاني المنشور في جريدة «القبس» قال العالم: «أما التيار الأخير في هذه الندوة، فهو أخطر التيارات التي اشتجر حولها الخلاف في الندوة، ولعله يكون من أخطر التيارات التي يشتجر حولها الخلاف في فكرنا العربي المعاصر عامة.
إنه تيار (السلفيين الجدد) أو (التراثيين الجدد) كما يسميه في مصر بعض المثقفين. وقد عبر عن هذا التيار في الندوة كل من د. جلال أمين، وطارق البشري ومحمد عمارة وعادل حسين. ويمكن أن نضيف إليهم أسماء أخرى لم تشترك في الندوة في مقدمتهم د. أنور عبد الملك، وقد عرضنا لمشروعه الحضاري في مقالات سابقة، ود. حسين حنفي وآخرون».
وفي الحلقة الثالثة والرابعة اللتين ناقش فيهما أطروحات التيار الأخير استعمل تسمية «السلفيين الجدد» لا «التراثيين الجدد». ومن الواضح أنه على نحو غير مباشر يقترح التسمية الأولى، لأنه يرى أن التسمية الثانية تسمية غير صائبة، لكنه لم يعلن عن ما يراه لأن الرفاق هم الذين أطلقوها.
تسميته المقترحة (السلفيون الجدد) استمدها من حركة السلفية في المغرب التي تسمى «السلفية الجديدة» و«السلفية الوطنية».
ودليلي على ذلك أنه في مستهل الحلقة الثالثة المعنونة بـ«الخروج من التبعية سلفياً» أورد تعريف علال الفاسي للسلفية.
محمود أمين العالم قصر مناقشته على ثلاثة ممن سماهم «السلفيين الجدد». الأول جلال أمين والثاني طارق البشري والثالث عادل حسين الذي عده هو أكثر ممثلي تيار «السلفيين الجدد» شمولاً وتكاملاً في تقديم وجهة نظر هذا التيار.
هذا هو أصل التحريف عند محمد عمارة. فهو مغتاض من محمود أمين العالم لأنه لم يخصه بمناقشة ونقد، فشطب اسم جلال أمين وأحل اسمه محل اسمه! وللحديث بقية.