إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

أين الوعد يا ماكرون؟

لا وعود عرقوبية هنا. لا يمكن لهذا المسؤول أو ذاك الوزير إطلاق التصريحات بأنه سيفعل كذا وينفذ كيت وكيت ثم تذهب تصريحاته أدراج الرياح، يترك المواطنين يقبضون على الهواء. وحتى ماكرون، رئيس الجمهورية، ممنوع من الوعد بالكمون، كما يقول المثل العربي. فالكمون، هذا التابل الذي لا يستغني عنه مطبخ، هو من النباتات التي ترتوي بالقليل من المطر. ولقوة احتماله، كان الفلاحون يتجاوزونه عند سقي محاصيلهم بالماء، على أمل ريه في وقت تال. لذلك قال الشاعر: «لا تتركوني ككمون بمزرعة / إنْ خانه الغيثُ أحيته المواعيدُ». أما عرقوب فكان رجلاً من العمالقة، كما جاء في الموسوعات. عاش في الجاهلية واشتهر بأنه يعد ويخلف ولا يفي. لهذا يضرب به المثل في العهود غير المنجزة.
ما دخل ماكرون بالكمون وبعرقوب؟
لا يترك الصحافيون رئيساً يغفو على وسادة الراحة. يمسكونه من لسانه إذا تفوه بجملة. يصبرون عليه بضعة أسابيع ثم يطالبونه بالتنفيذ. وكان من ورطات الرئيس الفرنسي أنه دخل تحدياً مع اثنين من المغنين الذين يملكون قناة على «يوتيوب». يتمتع ماكفلاي وكارليتو بشهرة واسعة بين الشباب. يتابعهما ستة ملايين ونصف المليون مشترك. ويبدو أن ماكرون أراد استثمار ذلك الانتشار ودعاهما إلى تسجيل أغنية ضد «كورونا». أراد تشجيع الشبيبة على التزام شروط التباعد. طلب منهما أن يشرحا ضرورة احترامها وتفضيل العمل عبر الشاشة والامتناع عن أدنى مجازفة.
كان ماكرون واضحاً في تحديه: في حال جمعت الأغنية 100 مليون مشاهد فإنه سيستضيف المغنيين في «الإليزيه». سيفتح لهما صالات القصر الرئاسي للتصوير، مع ما يتبع ذلك من ضجة وتغطية وشهرة إضافية. إن الملايين في «يوتيوب» تقابلها عائدات دسمة تدخل الجيوب.
كنا في أوائل فبراير (شباط). وفي الحادي والعشرين من الشهر كانت الأغنية جاهزة. تم تصويرها في الريف الفرنسي وبثها في الفضاء الإلكتروني. رسالة مؤثرة بسيطة الكلمات، تتحدث عن ضيق بعضهم بارتداء الكمامة لأنها تخنق الأنفاس، أو النفور من السائل المعقم لليدين لأنه لزج، أو استقبال العطسة في الكف بدل الكوع، أو الاندساس إلى مصعد البناية وهو مزدحم. ثم يطلب المغنيان المعذرة لأن الشباب يبالغون في الثقة بالنفس ويتجاهلون حدود التباعد. يقولان إن الحدود والحواجز كانت، في زمن سابق، تقام في الحقول لحجز الأغنام والأبقار فحسب، لا البني آدمين. من لا يود استعادة الزمن المفقود والمفتقد؟ وتنتهي الأغنية بعبارة موجهة إلى إيمانويل ماكرون مباشرة: «أعدك يا مانو بأن أنتبه. من أجل أطفالي ومن أجل فرنسا».
بعد دقائق من بث الأغنية بدأ رقم مشاهدي الأغنية بالتصاعد. 100 ألف. 200 ألف. حتى وصل الرقم بعد ثلاث ساعات إلى 500 ألف. نصف مليون. وفي الثالث والعشرين من الشهر، أي بعد يومين من إذاعتها، نجح ماكفلاي وكارليتو في كسب التحدي. زاد عدد مرات مشاهدة الأغنية عن 100 مليون. انضم شباب فرنسا إلى تحدي الرئيس.
انتهى فبراير ومر بعده شهر ثانٍ. ودخلنا في الثالث. وها هو يقارب الانتهاء والمغنيان لم يتخطيا عتبة القصر الرئاسي. وأمس خرج لسان طويل من صحيفة «الباريزيان» يسأل: «أين وعدك يا ماكرون؟». ويمكن للفرنسيين أن يزرعوا الكمون في حقولهم، لكن من المشكوك فيه أن يعرفوا عرقوباً. اسألونا، نحن العراقيين، عن العراقيب.