سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فرسان البر وأمراء البحار: «إسكندرية كمان وكمان»

... أما بالإضافة الأخيرة إلى مكتبة الإسكندريّة العظيمة في تاريخ رسم الخرائط، والتي غيّرت النظرة إلى العالم في أوروبا والعالم العربي لمئات السنوات، فهي الأطلس الوصفي الذي ابتكره أول رسام خرائط معاصر في العالم: كلوديوس بطليموس، الذي عاش بين عامي 90 و170 ب. م، ودرس طوال حياته في الإسكندرية. ولم يكن الإصدار خريطة بنفسه، لكنّه كان كتاب شرحٍ مفصّلٍ باليونانية، بنى على أعمال إراتوستينس وسترابو، إنما تخطاها بمنهجيته الفريدة، وغيّر النظرة إلى العالم بصورة أساسية، لدرجة أن كريستوفر كولومبوس اعتمده من بين أدواته الأساسية للملاحة حين انطلق نحو اليابان في عام 1492، أي بعد 1350 عاماً على كتابته! وتضمن كتابه وصفاً مفصلاً، ليس فقط لخريطة العالم، بل أيضاً لستة وعشرين قسماً أصغر منه. وفي المحصّلة، لو كانت خرائط اليوم مشروحة عوضاً عن مرسومة، لكان شرحها يُشبه إلى حدٍّ بعيد عمل بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد.
قال هوميروس في «إلياذته» الشهيرة، إن الأرض مسطحة. وعندما تصل إلى نهايتها تقع في الفراغ، أما الإسكندري إراتوستينس فقال إنها مستديرة، وقدّر أن محيطها يبلغ 24,901,055 ميلاً، وهو رقم أخطأ فقط بنسبة 2% عن عام 236 ق.م.
انتقل العالم اليوناني إراتوستينس من أثينا، حيث درس، إلى مكتبة الإسكندرية ليحوّل المعرفة الجغرافيّة الجديدة الموجودة في المكتبة كلها إلى خرائط، فاعتمد على العلوم والدراسات المتاحة والمعلومات المتوفرة له، ليصّور الخريطة بشكل كروي بدائي لأول مرة في التاريخ، مستخدماً سلسلة من الحلقات المعدنية ليجسدها. وتضمنت خريطته ثلاث قارات: أوروبا، وأفريقيا، وآسيا. واخترع كلمة «جغرافيا»، واستخدم لأول مرة خطوط الطول والعرض.
في عام 48 ق.م، احترقت مكتبة الإسكندرية العظيمة للمرة الأولى ودُمرت. ونقول المرّة الأولى لأنها عادت لتُدمّر أقلّه ثلاث مرات من بعدها، بيد أنها كانت تنهض وتتأسس من جديد في كل مرة. وبعد بضع سنوات من الحريق الأول، صدرت موسوعة المؤرخ والفيلسوف سترابو، الشرح الأشمل للعالم في حينها، وكانت من سبعة عشر مجلداً تضم معظمها شروحاً جغرافية للأماكن التي زارها بنفسه، لأنه كان من أول المسافرين العظماء في العالم. وعلماً بأن سترابو لم يرسم الخرائط، إلا أن شروحه المفصّلة أسهمت في إغناء إرث الجغرافيا العالمي.
بالقياس الذي انتهى إليه العلم بكل أدواته فيما بعد، ليست هناك بقعة في الكرة الأرضية لم تسجَّل على خريطة الآن. وتستطيع أن ترى على «غوغل» الشارع الذي تسكن فيه. وبسبب علم الخرائط الذي بدأ في الإسكندرية، أصبح في الإمكان اليوم أن تضع عنوان منزلك على الهاتف وتترك الباقي له، بما فيها الأماكن التي يزدحم فيها السير، والوقت الذي سوف يستغرقه. ويقدم لك عرضاً خاصاً بالطرق البديلة.
إلى اللقاء...