جمال زقوت
TT

الانتخابات: مكانة القدس ومأساة غزة

عدتُ من زيارة خاطفة لغزة لم تتجاوز اليومين، إلا أنها وبفعل أثر الانقسام والإجحاف وما يولّدانه من شعور عميق بالمظلومية، كانت أكثر من كافية لأدرك النتائج الوخيمة التي تفاعلت وتولّدت بفعل ما أسمته حكومات الاحتلال من كي للوعي، ولكن للأسف بأيدٍ فلسطينية، يكاد يضع الناس هناك على مفترق طرق ظالم بين خيارين أحلاهما مرُّ؛ الصمت على الظلم والإجحاف وترك مصير الناس للمجهول تحت شعار الوطنية التي لطالما كانت غزة رافعة له، أو القبول بأي حل يمكن أن يخفف من الحياة المأساوية ومن وطأة ظلم ذوي القربى، مقابل التخلي عن المستقبل والمشروع الوطني الجمعي للشعب الفلسطيني الذي لطالما لعبت غزة دور رأس الحربة من أجل إنجازه، بل وقدّم أهلها أغلى التضحيات على هذا الطريق.
الجيل الشاب الذي نشأ في غزة بعد اتفاق أوسلو الذي فشل حتى في منح الأمل بالحرية وممارسة الحق في تقرير المصير، وما ترافق مع تعمّق جذور الانقسام من ظواهر اجتماعية وإحباط عام. ربما لا يعرف هذا الجيل الكثير عن تاريخ الثورة أو حتى عن الانتفاضتين اللّتين فجّرتهما غزة ذاتها، وربما أيضاً لا يهمهم الأمر كثيراً، بقدر ما يهمه الخلاص من الواقع المرّ الذي وجد نفسه ضحية له.
لا تحتاج إلى جهدٍ كبير وأنت تتحدث إلى الناس من أعمار وفئات مختلفة كي تكتشف أن هذه البقعة، التي شكّلت على مدار عقود رافعة للوطنية الفلسطينية، قد فعل فعله بها الحصار والانقسام واغتيال الأمل لتكون محيّدة في مواجهة مقصلة تصفية الوطنية الجامعة وتحت ذرائع ومرافعات رغم خطورتها. ربما سيبدو بعضها مقنعاً لدى من يترسخ في وعيه الشعور بالمظلومية يوماً بعد يوم ولا يفكّر سوى بالخلاص. هذا في وقتٍ يعمل البعض وفق أجندات فئوية لا توفر حلولاً استراتيجية لأهل القطاع بقدر ما تستغل ضيق حالهم.
تفاعل الناس في القطاع مع مسألة الانتخابات، وبغضّ النظر عن مواقع ودوافع الانحياز لأي من القوائم المتصارعة أو المتنافسة، فإنها جميعاً تلتقي على نقطة واحدة: «ليس لماذا وصلنا إلى هنا، بل كيف ومن يستطيع أن ينشلنا من قاع الحفرة التي سقطنا جميعاً في وحلها». وعلى ضوء من سيقنع الناس بأنه يعرف كيفية تحقيق تلك النتيجة وقدرته على تحقيقها لهم، فإنه سيحصد النسبة الأكبر من الأصوات.
إلا أن ما يجري من تسريباتٍ، واضحة أو خفيّة، حول احتمالية تأجيل الانتخابات، يجعل هذا التفاعل مشوباً بالحذر، ويُظهر الأمل بأنْ تكون الانتخابات هي بوابة الفرج يبدو حزيناً تائهاً بين سكون أمواج بحر غزة في هذا الموسم.
الالتزام بموعد الانتخابات أو تأجيلها بالنسبة لأهل غزة ليس هو القضية الجوهرية، بقدر ما يُشكله الأمل بزوال الحصار والظلم، ولا يعنيهم كيف يحدث ذلك. كما أن الوحدة أو الانفصال أيضاً ليست هي الأولوية، بل قدرة أي منهما على إزالة الحصار والظلم وفتح باب الحياة ومعها الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم.
لم تتحول القدس لمعضلة إلا بعد فشل إمكانية المضي قدماً في خيار القائمة المشتركة بين «فتح» و«حماس»، والعقبات الداخلية التي واجهتها حركة «فتح»، وأدّت إلى خروج مجموعات إضافية منها، لتُشكل تحدّياً لـ«فتح» الرسمية بقيادة الرئيس أبو مازن. بل ربما السبب الحقيقي لبحث فكرة القائمة المشتركة هو تجاوز معضلة مثل ظاهرة الخروج هذه، بالإضافة إلى الاتفاق على الرئيس أبو مازن. وقد بدأ تظهير معضلة القدس، ليس كأداة لمواجهة المخططات الإسرائيلية الساعية إلى ضمّها وعزلها عن محيطها الجغرافي والديموغرافي والقانوني، بقدر إمكانية استخدامها مبرراً للتراجع عن هذا الاستحقاق الانتخابي وربما طي صفحته.
موقف الناس في غزة إزاء احتمال تأجيل الانتخابات، بسبب منع الاحتلال للانتخابات في القدس المحتلة، يرتبط شعبياً وإلى حدٍ كبير بتغيير الواقع الحالي من خلال حكومة جديدة يتحمل جميع من فيها مسؤولية وضع احتياجات المواطنين على رأس أولوياتها، وتقدر مدى معاناتهم المزمنة وقادرة على بلورة حلول ملموسة، ولو متدرجة، لرفعها. ليس فقط بما له علاقة بالحصار الإسرائيلي، بل، وبإلغاء ممارسات طرفي الانقسام تجاه أهل القطاع، سيما الإجراءات الإدارية والمالية التي فُرضت على الموظفين. هذا وحده هو ما سيجعل معركة القدس معركة كل الفلسطينيين، وفي مقدمتهم أهل غزة كما كانوا دوماً.
أما سياسياً، فإن الحديث عن التأجيل قد قدّم لحركة «حماس» وضعاً متميزاً لمطالبها، حيث لم يعد الأمر بالنسبة لهم مقتصراً على قضايا الحكم والإدارة وموقع ملفات القطاع في هذه القضايا، بل فإنه يتضمن المشاركة في القرار السياسي ودورها في المنظمة، سيّما بعد تمرير التزامها بشروط الرباعية من خلال الموافقة الضمنية على رسالة السلطة الفلسطينية التي تفيد، أيضاً ضمنياً، بموافقة جميع المرشحين على شروط الرباعية، وهنا بالتأكيد أقصد مرشحي حركة «حماس» أساساً؛ الأمر الذي يضعها على قدم المساواة مع «فتح» إزاء المطالب الدولية، مع أن هذه المطالب كانت قد بدت كشيء من الماضي قبل أن تحييها الرسالة طوعاً ومن جانب واحد.
أرى أن التفكير بتأجيل الانتخابات بصورة منفردة وفق قرارٍ رئاسي، دون توافق وطني ومجتمعي مسبق وشامل، بما في ذلك على حكومة وحدة وطنية تضمّ جميع الاتجاهات والقوى السياسية والمجتمعية الفاعلة، سيؤدي إلى انفجاراتٍ اجتماعية وانفلاتٍ أمني ومخاطر سياسية غير مسبوقة من ناحية مستقبل القطاع في الكيانية الجمعية. في وقت أن الإجماع على ذلك له أثمان سياسية، على رأسها التغيير في مضمون وشكل إدارة البلاد ومصالح العباد، وبما يشمل وقف التفرد أو التفكير بالمحاصصة على حساب قضايا الناس والمجتمع، والإقرار الفوري بإلغاء والتراجع عن رزمة القوانين التي مسّت الحريات واستقلال القضاء، وبدور المؤسسات الأهلية في التنمية كبديل لتوجه طاقاتها ومواردها في خطة تنموية للاقتصاد المقاوم وتضيق الفجوة بين الضفة والقطاع.
أي محاولة للتأجيل المنفرد والإصرار على استمرار الهيمنة والتفرد، ستدفع إلى إحياء فكرة المضي بفصل غزة بغض النظر عن سيناريو الإخراج، وفي جوهرها استخدام وجع الناس وفقرهم، وربما تهيئة استعدادهم للقبول بأي حل يخرجهم من جحيم المعاناة المتفاقمة.
إزاء هذه المخاطر الحقيقية، يتضح كم نحن في حاجة إلى رؤية حكيمة متماسكة أخرى، كالتي سبق وطرحها رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض، والتي توقف استمرار لعبة الروليت الروسية في التعامل مع المصير الوطني، وفي مقدمة تلك الرؤية يكون احترام حقوق المواطن ومكانة الوطن ومؤسساته الجامعة ومصيره الموحد، بما يتطلبه ذلك كله من إدارة للتعددية في إطارٍ من الشراكة لتحمل المسؤولية، وفق آلياتٍ واضحة في صنع القرار بمشاركة الجميع دون أي استثناء، وليس الاستقطاب الانقسامي أو المحاصصة الثنائية.