مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».
TT

رمضان الجابري... تعال إلينا

مع بداية هذا الشهر الفاضل، شهر رمضان، وهو مناسبة روحية واجتماعية راقية، تذكّرت، والذكرى تبعث الشجى...
تذكّرت وقتاً كانت السجالات الفكرية بين النخب العربية فيه مما يشدّ إليها الرحال وتثنى لها الركب، وتشحذ الأبصار والبصائر.
لماذا ارتبط رمضان بهذه الذكرى، بل لمَ ارتبطت هذه الجريدة الغراء، جريدة «الشرق الأوسط»، ببواعث الشجى القديم، والشجى يهيج الشجى، كما قال أخو بني تميم، متمم بن نويرة؟
درجت «الشرق الأوسط»، في كل موسم رمضاني، وكان لها قصب السبق في هذا المضمار، على استضافة ضميمة من نخبة المثقفين العرب المهتمين بالهوية وأسئلة الحضارة ومرتادي المستقبل ومنقّبي الماضي، وإجلاسهم على منابرها، وهم يتحدثون، بأقلامهم، للقراء العرب، مثيرين مياه «الراكد» بمجاديف الحركة العقلية.
من أبرز هؤلاء كان الراحل الكبير، والباحث النحرير، العَلَم المغربي الشامخ، المفكّر محمد عابد الجابري، الذي يعدّ مسطّر فصل ثوري في تجديد التفكير بالذات العربية المسلمة، عبر أعماله التأسيسية، تأتي في مقدمتها سلسلة «نقد العقل العربي» وألطفها وأخطرها الجزء الأول؛ تكوين العقل العربي.
كانت مقالات الجابري الفكرية الرمضانية بالجريدة، موضع تتبع ومثار ترقب لدى المتابعين، حتى من غير رهبان التخصص في التاريخ الفكري والسياسي والاجتماعي، و«كرادلة» العناية بالمنهجيات النقدية الحديثة.
من أسباب شيوع النص الجابري، علاوة على طرافة أسئلته وجدّتها، حلاوة كلامه وطلاوة بيانه، حتى يكاد يجعل الفكر خبزاً للناس، كما فعل في الشعر نزار قباني.
نأخذ مثلاً مما كان يحدثه الجابري من حركة صحية مفيدة في تنشيط الساحة الثقافية واستفزازها.
علّق المثقف السعودي الموسوعي الشهير، أطال الله عمره بعافية، الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، على حديث «شرق أوسطي» رمضاني للجابري بتاريخ 24 يناير (كانون الثاني) 1996.
الجابري تناول أحداث الفتنة الكبرى في حديثه ذاك، محاولاً تقديم تفسير تاريخي لما جرى، فكان مما قاله، واقتبسه ابن عقيل: «لم يكن للدين مرجعية في هذا الخلاف، وإنما كان الخلاف خلافاً سياسياً بالمعنى العام للسياسة... لم يكن باسم الدين، ولا ضد الدين».
ليعلّق الشيخ الظاهري على كلام الجابري على طريقته في الاستهلال، مبتدئاً على سنة شيخه أبي محمد بن حزم:
«قال أبو عبد الرحمن؛ تناول هذه العُضَلِ بمقالات يومية خلال شهر رمضان المبارك بجريدة (الشرق الأوسط)، (وهي جريدة واسعة الذيوع، تُمْتَحنُ فيها العقول والمواهب والأمانة القلمية)، فلا نجد في تلك المقالات الإنشائية غير الدعوى، والعموميات، والأحكام القطعية بلا برهنة».
المراد قوله، بوجيز العبارة هنا، إننا نفتقد كما تفتقد الجياد حلبات السباق، والطيور معارج الفضاء، هذا النوع من السجال والأخذ والردّ، لأننا، في هذا الوقت العصيب الذي نرى فيه انفجار صراع الهويات في العالم، ومركز هذا الصراع منطقتنا، الشرق الأوسط، الأرض وليس الصحيفة!
في هذا الظرف الزماني والحدّ المكاني... كم نحتاج إلى سقي عقولنا بماء التفكير ونفوسنا بعبير التأمل... عوض هذا الضجيج الأجوف.
كل رمضان وأنتم بخير.