كان الرئيس اللبناني إميل لحود يطلق التحديات مكذباً تعهد إيهود باراك بالانسحاب من لبنان في حال فوزه بالانتخابات الإسرائيلية، ويتماثل في موقفه مع المسؤولين في دمشق، الذين تخوفوا من التعهد الإسرائيلي؛ لأنه لو تحقق يفقدهم أوراقاً أساسية، فالانسحاب الإسرائيلي يفتح حتماً باب المطالبة بالانسحاب السوري واستعادة لبنان سيادته واستقلاله. وربما اعتبروا أن تعهد باراك بالانسحاب الذي كرره أمام أمهات الجنود الذين قتلوا في لبنان، مجرد دعاية انتخابية، ولم يتوقفوا عند إعلانه أن «تضحيات» إسرائيل في جنوب لبنان لا طائل منها، وأنه فور فوزه في الانتخابات على رأس حزب العمل سيضع تعهده في التطبيق!
فاز باراك وترأس الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وبدءاً من 19 مايو (أيار) من عام 2000 بدأت وحدات جيش الاحتلال في الانسحاب، حتى غير المنسق مع دمى «جيش لبنان الجنوبي»، ليكتمل الانسحاب خلال أيام قليلة، ويلتحق بجيش الاحتلال أعداد من ميليشيا الجنوبي مع عائلاتهم وكذلك الكثير من الأسر التي عاشت تحت الاحتلال وقد دفعها الخوف والخطر وغياب ما يرمز إلى دور للدولة يمكن أن يطمئنها!
الانسحاب الإسرائيلي كان اندحاراً للعدو عن أرض لبنان وتحريراً لآخر شبر؛ فشكل الأمر تتويجاً لتحرير بدأ في تحرير العاصمة بيروت في سبتمبر (أيلول) 1982. وأعلنت الحكومة اللبنانية برئاسة سليم الحص يوم 25 مايو عيداً للتحرير، ويحتفل لبنان سنوياً بهذه المناسبة.
«راحت السكرة»! بعد التحرير، ما المبرر لبقاء السلاح بيد ميليشيا «حزب الله»؟ وهذه الميليشيا كانت منذ تقنين العمل المقاوم، بالترهيب والاغتيال، مرتبطة كلية بمشروعٍ إقليمي، مشروع «المقاومة والممانعة» الذي ترعاه دمشق وطهران! ولا بد أن القلق أصاب النظام السوري صاحب البدع في تغطية احتلاله للبنان، ومنها بدعة «شعب واحد في بلدين»، أو نظرية «وحدة المصير والمسار»، وهو المدرك أن من شروط تغطية بقائه استمرار الاحتلال الإسرائيلي وليس العكس! وبالفعل، فقد أعلن مجلس المطارنة الموارنة في العام نفسه في بيان شهير «أما وقد انسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي فما من داعٍ لبقاء جيش النظام السوري»!
وهكذا، بعد أيام قليلة على الاحتفالات تم الإعلان عن الذريعة التي تبرر المضي في «حرب التحرير» حتى استعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، أي منطقة المثلث الحدودي الجنوبي الشرقي بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة! وطبعاً استوقف الأمر رئيس الحكومة الحص؛ لأن هذه المنطقة احتلت إثر احتلال الجولان في عام 1967 وتخضع للقرار الدولي 242 وليس للقرار 425 الذي على أساسه حصل الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب في عام 2000. كان يعرف أنه بعد حرب «الأيام الستة» توجه مجلس الأمن إلى السلطات اللبنانية يسأل عما إذا كانت هناك أراضٍ لبنانية محتلة، وكان جواب لبنان بالنفي (رسالة الرئيس شارل حلو ورئيس الحكومة رشيد كرامي). وبالتالي، صدر القرار الدولي 242 على النحو المعروف!
لكن تصريحات أدلى بها فاروق الشرع في لشبونة خلال مؤتمر للدول الأوروبية والمتوسطية أربك الرئيس الحص الذي اتصل بالشرع مستفسراً! يكتب الأخير، أنه روى حصيلة لقاء جمعه مع الموفد الدولي تيري رود لارسن، حيث أبلغه أن المزارع لبنانية؛ لأن لارسن كان يريد تأكيد المثبت لدى المنظمة الدولية بعد حرب الـ67 من أنها سورية، وبذلك تسحب الذرائع باستمرار المقاومة! لتبدأ مرحلة جديدة من استثمار محور الممانعة في «حزب الله» بذريعة أنه مقاومة، ما أطلق مخطط التغول على الدولة والقرار اللبناني! وكان هذا المنحى يتأكد تكراراً عند إفشال كل محاولات ترسيم الحدود مع سوريا. على الدوام رفضت دمشق إيداع الأمم المتحدة وثائق تؤكد لبنانية المزارع، وكانت على الدوام تطلق الاجتهادات ومنها عبارة لوزير الخارجية وليد المعلم الذي قال: بمعزل أن المزارع سورية أو لبنانية فهي بالتأكيد ليست إسرائيلية.
عموماً، على فترات متباعدة جداً جرت بعض العمليات «التذكيرية» من نوع إطلاق قذيفة كاتيوشا؛ لأن المخطط الإقليمي كان يستهدف القبض على الجمهورية! لكن المتحاورين بعد فرض انسحاب جيش النظام السوري إثر «انتفاضة الاستقلال» في عام 2005، توصلوا على طاولة المفاوضات إلى الاتفاق على مبدأ ترسيم الحدود مع سوريا. تقدمت الحكومة اللبنانية بطلب إلى الأمم المتحدة بهذا الشأن فكان القرار 1680 الذي صدر في 17 مايو 2006. ويدعو سوريا إلى الاستجابة لطلب «قدمته حكومة لبنان تماشياً مع الاتفاقات التي تم التوصل إليها في الحوار الوطني اللبناني بتحديد حدودها المشتركة وخاصة في المناطق التي تعتبر فيها الحدود غير مؤكدة أو محل نزاع». لكن الحكومة السورية لم تمتثل للقرار الدولي ورفضت تطبيقه!
بعد «حرب يوليو (تموز)» 2006، حرب «لو كنت أعلم»، تبدل الوضع كلية وكل لبنان تحول «مزارع شبعا»، ورغم أن دماراً مخيفاً لحق بلبنان وثمناً بشرياً فادحاً دُفع، وخرج مئات الألوف من منازلهم تحت الأعلام البيضاء، كان هناك من يتحدث عن «انتصار إلهي»، مع الانقضاض على وسط بيروت وبدء القضم الواسع للسلطة وإخضاع البلد إلى «فائض قوة» الدويلة! ولئن كان جيش النظام السوري قد أرغم على مغادرة الأراضي اللبنانية فبدأت استباحة من نوع آخر، جعلت قادة «الحرس الثوري» الإيراني يتفاخرون بأن بيروت هي واحدة من العواصم العربية الأربع تحت سيطرة نظام الولي الفقيه، الذي يجاهر «حزب الله» بإعلانه الانتساب إليه! وهكذا بعد قرار العدو ضم الجولان وبقائه في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا جاءت المفاجأة من دمشق!
قبل أيام كشف الموفد الأميركي إلى سوريا ولبنان فريدريك هوف، عن أن بشار الأسد أبلغه في 28 فبراير (شباط) 2011 (قبل أيام على بدء انتفاضة الشعب السوري) أن مزارع شبعا هي سورية، وأن تذرع «حزب الله» بها هو من أجلِ إبقاء سلاحه فحسب! طبعاً أثار هذا الحديث أوسع الاهتمام، لكن الصمت مطبق. مرت أيام ولم يسمع أحد أي توضيح من دمشق، لا نفي ولا تأكيد، ويلف الصمت «حزب الله» وكل الممانعين، ومنهم نواب كانوا يوزعون صوراً عن صكوك الملكية مع أن ذلك لا يعني بالضرورة السيادة، والصمت الأكبر يلف موقف حليف «الحزب» المقيم في القصر الجمهوري الذي نسج علاقات متينة مع رأس النظام السوري!
السؤال اليوم، هل هناك مشروع لأن تتسع «مزارع شبعا» نحو البحر! لأنه مع التعديل الذي أدخل على المرسوم 6433، هناك مخاوف من ألا يكون الأمر يستند إلى أرضية صلبة يمكن إثباتها قانونياً؛ لأنه إذ ذاك سيحول دون ترسيم الحدود البحرية، ما سيمنع لبنان من الاستفادة من ثرواته! الاستفاقة على هذا التعديل مقلقة لأنها تمت بعد إعلان الرئيس بري «اتفاق الإطار» وبدء التفاوض في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، ولا يخفى أن الخشية كبيرة أن يكون لبنان أمام اختراع جديد لخدمة سياسات وأهدافٍ خارجية لا طائل للبنان بها! نعم، الخطر حقيقي من تكرار الاختلاقات لتغطية العقدة الأم، ألا وهي إبقاء لبنان رهينة خدمة للأجندة الإيرانية!
8:2 دقيقه
TT
عندما تحول لبنان «مزارع شبعا»!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة