د. ياسر عبد العزيز
TT

بندقية وميكروفون!

في سبتمبر (أيلول) 2015، عرفت الصحافية المجرية بترا لاسزو الشهرة كما لم تعرفها من قبل؛ إذ تصدرت صورها وأخبارها نشرات الأخبار والصفحات الأولى في عدد من كبريات وسائل الإعلام عبر العالم، لكنها لم تحتفظ لاحقاً بهذا الذيوع والاهتمام، ولم يعد ذكرها يرد عادة إلا في محافل ضيقة، ولسبب وحيد لا يتعدى «استخلاص العبر».
فقد ظهرت لاسزو - آنذاك - وهي تمارس عملها مراسلة لتلفزيون «إن 1 تي في» المجري الخاص، بينما تعرقل بقدمها رجلاً من المهاجرين السوريين غير النظاميين يحمل طفلاً ويركض به، محاولاً الفرار من أيدى شرطي، فوقع الرجل والطفل أرضاً، في حين ظهرت في مشهد آخر وهي تركل طفلاً كان يركض محاولاً الفرار من الطوق الأمني.
ووفق وكالات الأنباء العالمية، فقد بثت «إن 1 تي في»، وهي قناة تلفزيونية تبث عبر الإنترنت، ومقربة من حزب «غوبيك» اليميني المتطرف، مشاهد للواقعتين التقطتها كاميرا المصورة نفسها. وفي بيان صدر لاحقاً، قال رئيس تحرير القناة سابولكس كيسبيرك، إن «إحدى الزميلات في (إن 1 تي في) تصرفت اليوم بطريقة غير مقبولة، وقد أنهينا عملها على الفور».
تلك الإعلامية كانت تعمل في قناة تلفزيونية مقربة من أحد الأحزاب اليمينية، وقد ظهر لاحقاً أن لذلك الحزب موقفاً واضحاً إزاء عملية استقبال المهاجرين في أوروبا عموماً، والمجر خصوصاً؛ حيث يعتقد هذا الحزب، مثل بعض الأحزاب اليمينية الأخرى، أن فتح الباب لاستقبال المهاجرين قد يؤثر في اقتصادات دول القارة العجوز، ويهدد تماسكها الاجتماعي ويزعزع سلمها الأهلي.
ويبدو أن انتماء تلك الصحافية لهذه القناة بالذات له علاقة بالتوجهات الفكرية والسياسية التي تتبناها. وبناء عليه، فسيمكننا اعتبار أن تلك المصورة لم تكن تمارس عملها الصحافي بتجرد ومهنية حين قامت بالتقاط تلك الصور للمهاجرين الذين يتعرضون لعمليات التوقيف، ولكنها كانت تخلط بين موقفها السياسي ومهنتها.
إن بترا لاسزو أنموذج واضح لـ«الإعلامي الجندي»، وهو نموذج يتكرر باستمرار؛ سواء من هذا الصحافي الذي يترك عمله الذي يتمثل في توجيه الأسئلة، ويستبدل به «الهتاف للقائد المفدى»، أو تلك الإعلامية التي توجه سباباً جارحاً لزعيم دولة أجنبية لأنه «يعادي بلادها»، أو هذا الإعلامي الذي يدعو المواطنين إلى الخروج في مظاهرة، ويبلغهم أنه سيكون في الموقع والتوقيت المحددين لكي يقود المظاهرة بنفسه.
لقد حدثت كل هذه التجاوزات في الفضاء الإعلامي بالفعل. ولعلنا جميعاً نذكر ما فعلته إعلامية ليبية في العام 2011. حين أخرجت مسدساً على الهواء مشهرة إياه في وجوه المشاهدين ومهددة إياهم بالقتل في حال تجرأوا على معارضة الزعيم القذافي. وبالطبع، فنحن لن ننسى هذا الصحافي العراقي الذي ألقى بحذائه في وجه الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في مؤتمر صحافي، ببغداد، في العام 2008.
في مطلع الشهر الحالي، حملت وسائل الإعلام خبراً مأساوياً عن مقتل زميل صحافي يمني يدعى هشام البكيري، خلال اشتباكات مسلحة وقعت غرب تعز بين القوات الحكومية وميليشيات الحوثي، وفي الرثاء الذي تم تداوله لهذا الصحافي المعروف أشير إلى أنه «حمل السلاح بيد والميكروفون بيد».
يعرف اليمن حالة إعلامية محزنة بطبيعة الحال؛ إذ يقع الصحافيون ضحايا للاستقطاب السياسي والعسكري، وتزيد قابليتهم للانحياز على أسس آيديولوجية، وتتراجع قدرتهم على الوفاء بالاعتبارات المهنية تحت ضغط نضوب الموارد والأزمة الاقتصادية، وقد سجلت المنظمات الدولية المعنية مقتل العشرات من الصحافيين نتيجة للنزاع فضلاً عن اعتقال آخرين.
لقد وقعت تلك الضغوط أيضاً على زملاء صحافيين في دول مثل ليبيا والعراق وسوريا، وأدّت للأسف الشديد إلى انخراط بعضهم في أنشطة قتالية أو سياسية بحتة مع احتفاظهم بأدوارهم الصحافية. وبسبب مراوغة الخط الدقيق الفاصل بين العمل في الإعلام التابع لمنظمة أو حكومة منخرطة في أعمال قتال محتدمة وبين الحفاظ على المعايير المهنية، انخرط صحافيون في أنشطة دعاية سياسية وأعمال قتالية.
لا يمكن بالطبع أن نطالب الصحافيين بالكف عن تكوين الآراء أو تبني الآيديولوجيات أو تأييد أي من الفرقاء في الصراعات السياسية والعسكرية، لكن كل هذا لا يجب أن يجور على القواعد الأساسية لممارسة المهنة أو يسخرها لخدمة الخط السياسي.
الصحافة عمل مهم، وخدمة أساسية يحتاجها البشر، والجمع بينها وبين أي مصلحة أو عمل آخر يضرّ بالاثنين معاً.