يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

المناعة السياسية: الاستقرار والركائز السعودية

«فضيلة الاستقرار» في الداخل والمنطقة إحدى أهم الركائز السياسية الكبرى التي تسعى المملكة العربية السعودية إلى تكريسها في المنطقة عبر مواقفها الحاسمة في الأوقات الصعبة، بدا ذلك واضحاً في موقفها الأخير المسؤول تجاه ما حدث في الأردن الشقيق، في وقت قياسي، وبلغة واضحة تعيد إنتاج فلسفتها السياسية التي تطورت منذ لحظة «الربيع العربي» وصولاً إلى تعميم نموذج رؤيتها الفريدة «2030»، لتكون نموذجاً لصناعة المستقبل، في حين تسعى العديد من الدول والكيانات السياسية إلى صناعة الدمار والانشقاق، وتقويض مفهوم الدولة عبر أدوات عديدة حربية وعسكرية وميليشياوية وإعلامية.
تدرك السعودية أن ضمانة المستقبل في المنطقة ليس لها سوى مفتاح واحد، وهو أن الحفاظ على مكون الدولة مهمة صعبة وتحتاج إلى تفهم ودعم دولي، وفي الوقت نفسه بحاجة إلى فهم المكونات السياسية، لا سيما المعارضة التي تعيش حالة توهان في قراءتها للواقع، كما أنها لا تعي أنها الضحية الأولى في حال انهيار الدولة وسقوطها في قبضة الميليشيات المسلحة.
الخليج اليوم في لحظة حاسمة كما لم يكن من قبل، وعليه أن يسعى بخطى ثابتة نحو الإصلاح الاقتصادي والإداري الذي ابتدأه منذ تبدل أسعار النفط، لكنه يواجه عبر دوله وكياناته المجتمعية تحديات كبيرة في عالم مضطرب يعيش لحظة مفصلية من تاريخه، ومنطقة تتشكل من جديد بكل ما تعنيه الكلمة على أنقاض جمهوريات وجماهيريات اضمحلت لأنها فقدت مسببات البقاء.
ما تحتاج إليه دول الخليج اليوم هو تحويل أمنها المرتبط بتطوير القطاعات الأمنية والتدريب للوصول إلى «استراتيجيات الأمن المستدام» في فترة تمر المنطقة فيها بأحلك الظروف، وهو تحد صعب وقاس في ظل الأحوال الاقتصادية وتراجع أسعار النفط، لكن حرص دول الخليج بمجتمعاتها على التمسك بـ«الاستقرار السياسي» يقودها إلى اجتراح الحلول والتماسك فيما يخص مواقفها تجاه قضايا المنطقة، حتى مع تبدل التحالفات السياسية لدول الإقليم التي تعيش حالة من التدمير الهائل لمنطق الدولة، واستبدال منطق الميليشيا به، في ظل صمت مطبق للقوى الدولية لمفاتيح الحل، منها التصدي للمشروعات التقويضية، على رأسها مشروع ملالي طهران وأذرعها الحربية والعسكرية.
في تقرير بحثي فرنسي ليس بعيداً عن مفهوم السيادة والاستقرار، لكن من زاوية جائحة «كورونا»، تحدث التقرير عن العلاقة الطردية بين آليات توزيع اللقاح وبين الأوزان السياسية في العالم، تعليقاً على تفاوت إجراءات الدول في حماية مواطنيها في الداخل من تبعات الجائحة، وهو الأمر الذي حصدت فيه السعودية بشهادة العالم وأمام مرأى الجميع قصب السبق، لا على مستوى إدارة الأزمة أو تداعياتها فحسب، بل تحويل الداخل السعودي إلى خلية نحل تضامنية لا تهدأ لمعالجة تأثيرات أزمة «كورونا»، والتطابق في الرؤية السياسية والتثقيف والتوعية المجتمعية.
كان لإدارة أزمة «كورونا» المتفوقة وما تبعها وتخللها من مواقف اقتصادية وسياسية، والمزيد من مشاريع التنمية وصناعة المستقبل، دور كبير في إعادة طرح منتج المناعة السياسية بإزاء المناعة الصحية، فالاستقرار اليوم يدرك السعوديون قيمته في ظل تصدعات تعيشها المنطقة يجب أن يترافق مع قراءة للتحديات والتحولات التي تمر بها المنطقة، والتي تؤثر بالطبع على طبيعة الحراك السياسي والاجتماعي في الخليج أكثر من أي وقت مضى بسبب طفرة وسائل الاتصال وهشاشة المحتوى.
قوة السعودية تتجاوز سياساتها الاستباقية للحفاظ على فضيلة الأمن والاستقرار في الداخل، ومساعدة الدول على تجنب الأزمات الكبرى الاقتصادية والسياسية التي قد تفضي إلى انهيار الدولة، فمع كونها لاعباً رئيسياً وفاعلاً في المنطقة إلا أن واحدة من نقاط قوتها هي موقعها الجغرافي، باعتبارها القبلة الدينية لأكثر من مليار مسلم في أنحاء العالم، إضافة إلى كونها بوصلة اقتصادية عالمية للطاقة والنفط والشركات الكبرى والأسواق التنافسية المفتوحة.
اختلال توازن القوى في الإقليم لم يكن وليد اليوم، بل يعود إلى الحالة السياسية منذ الثورة الإيرانية وإسقاط نظام الشاه؛ لكن انضاف إليه تدخل سيادي بأدوات جديدة، وانضاف إليه واقع متردٍ جداً في دول «الربيع العربي»، وتغير في الهوية السياسية، إضافة إلى انهيار البنى المؤسسية للدول وهشاشة اقتصادية مرعبة، وكلها نذر بأن الأمر كما تفهمه السعودية يتعدى مواقف سياسية متصلبة إلى قلق حقيقي تجاه انهيار المنطقة بالكامل.
السعودية تملك أوراقاً تفاوضية عالية القيمة، بدا ذلك في مواقفها التاريخية في حفظ مكون ومنطق الدولة في المنطقة، لا سيما مع الدول التي تعرضت إلى أزمات تتصل بهويتها الوجودية، سواء في فترة «الربيع العربي» أو ما بعدها، بدا ذلك واضحاً اليوم في موقفها التضامني مع الأردن، وعلى أعلى المستويات، كما أنه لم يكن موقفاً منفرد العزف السياسي إذا ما أخذنا في الاعتبار دورها في ترسيخ سياسات الاستقرار في دول المنطقة الكبرى؛ مصر في ثورتها التصحيحية، وقبل ذلك التصدي لكل المهددات الأمنية التي تحول دون استقرار الحالة البحرينية، والقطيعة التشريعية والمجتمعية مع خطابات التطرف والإرهاب ومشاريع الدول التي تحاول المساس بسيادة دول المنطقة مما حول الرياض إلى ملاذ آمن لتصدير نموذجها الفريد في طرح أولوية «الاستقرار» في مقابل نزعات الانفصال.
السياسة الاستباقية السعودية التي تعكسها مواقفها السريعة والمسؤولة تجاه «فضيلة الاستقرار» ليست ذات أهداف انتفاعية قدر أنها رسائل تحمل مضامين أخلاقية في توقيت استثنائي بهدف تكثيف كل الاعتراضات التي تعاني منها دول الاعتدال في المنطقة، على رأسها السعودية، تجاه قضايا المنطقة وطريقة أداء المجتمع الدولي ومؤسساته من جهة، والقوى المؤثرة فيها من جهة ثانية، بالطبع على رأسها ارتباكات الدول والقوى الغربية حول مقاربة «فضيلة الاستقرار» على حساب أجنداتها الخاصة، منها الارتباك والانسحاب والتخلي الذي تعيشه الولايات المتحدة اليوم مع الكثير من هشاشة مقاربة المشاريع التقويضية للاستقرار، منها مشروع ملالي طهران.