خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

عالم آرثر ميلر ومارلين مونرو

الثقافة والفنون الجماهيرية صديقان لدودان، حبيبان متنافسان، وقريبان متحاسدان. من أحدهما جاء آرثر ميلر ومن الآخر جاءت مارلين مونرو...
ميلر، على كل ما قدم، لم يكن لينال الشهرة بين العامة لولا زواجه من مارلين. مَن يعرف اسمه ولا يعرف أعماله، ولا قرأ له، يعرف أنَّه كان زوجاً لملكة الإغراء. تاريخ العالم علّمني أنَّ الجمال هو القيمة الأهم، هو حامل التفاصيل والروايات. الحضارة العظيمة التي لا تترك جمالاً تندثر. إذ لا شيء يُغري الناس بحفظ إرثها. الشِّعر الجميل، الرواية الجميلة، تحفظ رؤية أصحابها للأحداث ولو كانت كاذبة. تحفظها كنتيجة فرعية لحفاظ الناس على الجمال. لو سارا في شارع واحد لتهافتت الجماهير على مارلين، ولو خُيِّرت قناة تلفزيونية بلقاء أحدهما في برنامج في وقت الذروة لاختارت الجميلة. سيكتفي ميلر بالأولوية في منصة في ندوة.
رغم ذلك كله، انصدم الوسط الثقافي من العلاقة. ليس لأنَّ مارلين قَبِلت به، وهي التي كانت القلوب تهوي إليها حتى من كبرى عائلات زمانها نفوذاً وسطوة، بل لأنه «تنازل» وتزوجها. أتاح لي «يوتيوب» أن أرى ملاحقته بالأسئلة وتقديمه الإجابات من منطق صاحب اليد العليا، صاحب الحق في التقييم، حتى بعد عقدين من وفاتها الأسطورية وقبل عقدين من وفاته العادية.
هل وصلت قبلي إلى ما أرمي أن أصل بك إليه؟ الشهرة الجامحة التي نالها مشاهير الترفيه ظلت منظوراً إليها من عَلٍ، من جانب أهل التوجيه الفكري. والشهرة الشخصية المحدودة التي نالها المثقفون المتميزون ظلَّت منظوراً إليها بتطلُّع من جانب مشاهير الفنون الجماهيرية. كأن هذا كان قانوناً سرياً غير مكتوب. لفريقٍ الشهرة ونظرات الإعجاب، ولفريقٍ النفوذ العقلي. وظلَّ الفريقان يحومان حول السياج، كلٌّ يريد من نصيب الآخر بعضاً. كلٌّ يريد أن يتحول إلى «خالب العقول الأسمى»، إن نجح في الجمع بين هذا وذاك.
كان الموضوع أصعب على المفكرين، لأنَّ حيازة الشهرة الجماهيرية تتطلب نوعاً نادراً من الموهبة. أما نجوم الفن فظل الحلم يراودهم. لأنَّهم ظنوا أنَّ من السهل إضافة شعار فوق برج شهرتهم التي اكتسبوها من تاريخهم الفني. وأنَّ هذا كفيل وحده بتحويلهم من فنان يستعرض إلى مفكر، من دون أن يُلزموا أنفسهم بخوض الصراع الفكري بأدواته.
ما منع هذه الرغبة وقتلها -ذاتياً- كانت معضلة التقاء الضدين. أصحاب القضايا الفكرية أشخاص مستقطَبون تعريفاً، ولو لم يسعوا إلى ذلك. يحبهم طرف ويعارضهم طرف. يمدحهم طرف ويحقّرهم طرف. يرى طرف أفكارهم في صالحه ويرى آخر أفكارهم وبالاً عليه. بينما مشاهير الفنون لا يناسبهم ذلك، لأنه ضد الجماهيرية تعريفاً. وسيعضهم في شباك التذاكر.
لكن هذا التناقض لم يقتل الرغبة الكامنة. وفي الظرف الملائم لظهور مولود الاثنين، «خالب العقول الأسمى»، عبّرت عن نفسها. وأثبتت لنا أنها أخطر مما تبدو. سرد وقائع خروجها المعلن يمر بمراحل ثلاث مهّدت له. أولاها السوشيال ميديا. ثانيتها، الستريمنغ سيرفس (خدمات البث المنزلي)، ثم «كورونا» ثالثتها. بها وصلت الرغبة في قيادة عقول الجماهير إلى الإغواء الأخير.
السوشيال ميديا مكَّنت الفنانين الجماهيريين من تجاوز عائق «حرس النخبوية»، وهم مجموعة السيطرة على الإعلام، التي كانت قادرة على إيلام مَن يحاول أن يستغلّ شهرته في منازعتها في حيزها، حتى بلا تجنٍّ عليه، بل الاكتفاء بتقييمه طبقاً لمعايير التقييم الفكري. صارت السلطة الوحيدة على الفنان الجماهيري هي «فيسبوك» و«تويتر» فقط. وما دام توافق معهما، فإنَّ طريقه الإعلامي إلى الجماهير سالك.
العائق الثاني الذي منع الفنان الجماهيري من ممارسة رغبته القيادية كانت شركات الإنتاج التي ستنأى بنفسهما عن الفنان المثير للجدل، خشية انصراف الجماهير عنه. زال هذا العائق الثاني باليستريمنغ سيرفس. وبالمنطق نفسه، صارت السلطة الوحيدة عليه هنا. إن أرضيتَ أرباب البث المنزلي، «نتفليكس» و«أبل» و«غوغل» و«ديزني»، فإشارتك خضراء.
والعائق الثالث كان الجماهير. فحتى لو وجد الفنان المثير للجدل منتجاً مخاطراً، كانت الجماهير تردّ عليهما في شباك التذاكر. «كورونا» أزال هذا العامل وقتياً خلال السنة الماضية. ويبدو هنا أن هذا شجّع المزيد والمزيد من الفنانين على أن يصيروا طرفاً «سياسياً»، وأن يرتدوا قناع المفكرين، وأن يمارسوا الحملات «الفكرية».
لكن الموضوع لم يكن على جانب «مونرو» فقط. جانب ميلر تغير هو الآخر بالتبعية. ميلر كتب «البوتقة» احتجاجاً على لجنة ملاحقة الشيوعيين المتخفّين في أوساط النخبة، المعروفة باسم السيناتور جو مكارثي. عدّها مثيلاً لملاحقة الساحرات ومحاكم التفتيش في القرون الوسطى.
الآن، فريق من النخبة المفكرة أعجبته لعبة الشهرة. قاسمه الفنانون الجماهيريون حيّزه، فلماذا لا يقاسمهم هو حيزهم. صار قطاع من المفكرين هو الذي يمارس المكارثية الجديدة التي كان يحاربها. ولكن بنسخة أسوأ. لقد كانت المكارثية -على الأقل- رسمية علنية إجرائية. يملك فيها المتهم حق الاستماع. أما ثقافة الإلغاء فبلا إجراءات، ولا لائحة اتهام. المكارثية مارستها سلطة منتخَبة. وثقافة الإلغاء تمارسها سلطة البث المنزلي التي لا تخاف -في ظل «كورونا»- من استفتاء الجمهور، وسلطة السوشيال ميديا، التي تمارس عليك دور الرقيب بوصفها ناشراً، وتتملَّص من مسؤولية المنشور بوصفها منصة.
زواج ميلر من مونرو أنتج كائنات هجينة؛ شيوعيين رأسماليين، ومعارضين سلطويين، وكتاباً رقباء. مونرو تدعو إلى المكارثية، فيرتدي أرثر بذلة السيناتور مكارثي. وهو حال لن يستمر طويلاً. لأن الجمهور سيخرج من مخابئه، ويفرض أولوياته، ويمنع عطاياه. النظام العالمي لن يستقيم بهذه الفوضى اللا خلاقة.