عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

قناة السويس والملاحة الدولية

تعطل سفينة الشحن العملاقة «إيفرغيفين» (العطاء الأبدي بينما إيفرغرين هو شعار الملاحة) في قناة السويس عرقل 12 في المائة من الملاحة التجارية الدولية مما يلقي الضوء على نقطتين؛ الأولى أهمية قناة السويس واعتماد التجارة الدولية على حرية الملاحة وتعاون بلدان العالم ومؤسساته على اختلاف الألوان والقوميات والعرقيات، خاصة أن القناة تأسست في القرن الـ 19 بتعاون متعدد الجنسية. وثانيها أهمية التخطيط الاستراتيجي للمستقبل، وبعد نظر جيل مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا وأولاده في تفهم ميزة الوضع الجغرافي للبلاد وعلاقتها بالعالم.
سفينة الشحن إيفرغيفين وزنها بالحمولة 224 ألف طن؛ غاطس السفينة 16 متراً وعمق القناة 24 متراً. حسب تقرير وكالة للويدز لتأمين الملاحة، تعطل الأجهزة الإلكترونية التي تحرك الدفة شل قدرة السفينة على تغيير المسار فدفعها التيار (فطولها 400 متر وعرض القناة 275 متراً) لتنحشر ما بين الضفتين.
النقل البحري يحمل 90 في المائة من التجارة الدولية يمر 12 في المائة منها في قناة السويس التي مرت فيها 19 ألف سفينة تحمل ملياراً و250 مليون طن من البضائع والبترول الخام بمعدل 53 سفينة يومياً في عام 2019. ثلث عدد السفن من نوع إيفرغيفين والباقي للبضائع الصغيرة والركاب، وناقلات البترول الخام.
ناقلات البترول الخام تمثل عصب التجارة والصناعة العالمية. في 2019 كان يمر، نحو 600 ألف برميل بترول خام من الشرق الأوسط عبر قناة السويس إلى معامل التكرير في أوروبا وأميركا، وفي الاتجاه الآخر 850 ألف برميل من حوض الأطلسي (بترول بحر الشمال والأطلسي والمتوسط) إلى آسيا يومياً.
وهو ما دفع لإنشاء خط أنابيب البترول SUMED (السويس - المتوسط) يمر من العين السخنة جنوب السويس إلى محطة الشحن والتكرير غرب الإسكندرية في 1973 بكنسورتيوم مصري وخمس بلدان منتجة للبترول أثناء إغلاق القناة (ما بين 1967 ومنتصف السبعينات بسبب الحرب المصرية الإسرائيلية) يحمل البترول من خليج السويس إلى المتوسط.
السفينة إيفرغيفين تحمل 18 ألف شاحنة (حجم الواحدة مثل شقة استوديو) مثل عمارة ارتفاعها 35 متراً، وإيجاد أوناش وآلات رفع تصل هذا الارتفاع لنقل ما يكفي من الشاحنات لتخفيف الحمولة وإيجاد حفارات لتوسيع الضفة حيث انحشرت السفينة حتى تستطيع صنادل السحب البخارية تحريكها قد يستغرق عدة أسابيع.
أكثر من 160 سفينة تنتظر الآن خارج مينائي السويس جنوباً (البحر الأحمر) وبورسعيد شمالاً (البحر المتوسط) وإعادة تغيير المسار حول القارة الأفريقية (طريق رأس الرجاء الصالح سيضيف ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع لرحلة كل سفينة مما يكلف مليارات الجنيهات من الخسائر.
قبل 2014 كان متوسط عدد السفن 49 يومياً، وزاد العدد بفضل مشروع هيئة قناة السويس الذي بدأ في 2014 بحفر خط آخر 22 ميلاً موازٍ للقناة (الأمل أن يصل إلى 97 سفينة يومياً عند انتهاء المشروع بعد عامين) ؛ وهو ما يشير إلى أهمية التخطيط الاستراتيجي المستقبلي.
مسألة ربط التجارة بين الشرق والغرب كان جزءاً أساسياً من مشروع التحديث وبناء مصر الذي بدأه محمد علي باشا (1769 - 1848). وكان الباشا بدأ فور حفر وتشغيل ترعة المحمودية في 1820 في شراء قضبان السكك الحديد من إنجلترا لتوصيل البحرين (السويس إلى القاهرة إلى ميناء الإسكندرية - محطة القباري) بالخط الحديدي الذي بدأ إنشاؤه في 1833 على يد المهندس البريطاني روبرت ستيفنسن (1803 - 1859) وبدأ تشغيله في 1853. وعبر ترعة المحمودية، وهي مسار الفرع الكانوبي، حيث كان للنيل سبعة فروع تكون الدلتا، قبل جفافه بعد إهمال الصيانة عندما لم تعد الإسكندرية عاصمة مصر في القرن الثامن الميلادي.
لكن مقاومة الفرنسيين لفكرة خط السويس القاهرة (بسبب تفضيلهم لمشروع قناة السويس) أجلت المشروع وركزت مصر على مد السكة الحديد إلى السودان وإثيوبيا وكانتا جزءاً من مصر.
فكرة قناة السويس كانت لأبي المشروع الحديث الدبلوماسي والمستثمر الفرنسي فرديناند ماري ديليسبس (1805 - 1894)، لكنه أصبح تطويراً لمشروع نابليون بونابرت (1769 - 1821) عندما وصل إلى مصر في 1798 وبعث فريقاً من المهندسين لرسم الخرائط، وكان هناك اعتقاد خاطئ بأن القناة ستغرق الدلتا بسبب فرق منسوبي البحرين الأحمر والأبيض. وكانت الملاحة بين البحرين مستمرة قديماً في عهد الأسرة الثانية عشرة والملك المصري سنوسرت الثالث (1878 - 1839 ق.م) عن طريق قناة أوصلت البحر الأحمر بالنيل وفرع رشيد الكانوبي (الذي أنشأ الإسكندر الأكبر الإسكندرية عند مصبه في 330 ق.م).
المفارقة أن محمد علي باشا لم يكن متحمساً لمشروع قناة السويس لسببين؛ أولهما استخدام الترع والنيل والسكة لحديد لربط السويس بالإسكندرية لزيادة الدخل والوظائف في مصر، والسبب الآخر أمني استراتيجي، إذ خشي أن القناة ستعطي الإنجليز مبرراً للتدخل في مصر أو السيطرة عليها. ولم يبدأ العمل في القناة إلا في 1859 في عهد سعيد باشا (1822 - 1863) الذي أسس مدينة بورسعيد، وكان صديقاً لديليسبس. وأكملت القناة في 1869 في عهد الخديو إسماعيل (1830 - 1895). الطريف أن تمثال الحرية الموجود الآن في نيويورك كان قد صمم لقناة السويس.
الفنان الفرنسي فريدريك أوغست بارتهولد (1834 - 1904) كان استلهم الفكرة من تمثال كلوسوس في جزيرة رودس (إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة) ليصنع تمثالاً بارتفاع 90 متراً لامرأة في زي شعبي مصري تحمل الشعلة (رمز منارة الإسكندرية) كمصر تقدم نور الحضارة إلى آسيا. مقاومة ديليسبس للفكرة دفعت بارتهولد إلى بيع التمثال للأميركيين لينصب في نيويورك في 1886 تعبيراً عن «الحرية شعلة استنارة العالم».