جون أوثرز
كاتب من خدمة «بلومبرغ»
TT

أوروبا تكتشف مخاطر الحذر تجاه اللقاح

وقف رئيسا وزراء المملكة المتحدة وفرنسا، الأسبوع الماضي وكشفا عن ساعديهما ليتلقيا لقاح «أسترازينيكا» ضد فيروس «كوفيد - 19». إلا أنَّ الامر ذاته لم يحدث في الدنمارك والنرويج والسويد، حيث لا يزال قرار وقف الاعتماد على «أسترازينيكا» سارياً. وما زاد الوضع ارتباكاً إعلان فرنسا أن اللقاح مخصص فقط لمن يتجاوزون الـ55. يأتي ذلك على الرغم من أنه حتى أسبوعين ماضيين، قالت ألمانيا وفرنسا إنَّ اللقاح مخصص فقط لمن هم دون الـ65، رغم أنَّ الاتحاد الأوروبي أقره لجميع البالغين.
اليوم، توقفت غالبية الدول في أوروبا عن استخدام «أسترازينيكا» لحين التحقيق بشأن المخاوف من أنه ربما يسبب جلطات مميتة في الدم. جاء كل هذا في وقت بدأت فيه الموجة الثالثة للجائحة في الهيمنة على أوروبا، في الوقت الذي لا يزال يتعين فيه على «أسترازينيكا» التقدم بطلب للحصول على موافقة داخل الولايات المتحدة.
باختصار، أحدث لقاح «أسترازينيكا» انقساماً في العالم، وطرح أمام الجميع مسائل أخلاقية فريدة من نوعها لم يعد بمقدور أحد تجاهلها.
لقد كشف اللقاح عن عيب خطير في أسلوب موازنة الاتحاد الأوروبي ما بين المخاطر والمنافع، وأزاح الستار عن المسائل الأخلاقية غير المتوقعة التي تثيرها فكرة توافر لقاحات مختلفة عديدة للمرة الأولى لمواجهة مرض ما. وتبدو الدروس المستفادة هنا قابلة للتطبيق في كل مكان.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن قرار وقف الاعتماد على «أسترازينيكا» جرى اتخاذه بناءً على «مبدأ احترازي» جرى الترويج له في سبعينات القرن الماضي للمعاونة في إقرار معايير بيئية أمام الجماعة الاقتصادية الأوروبية. وينص المبدأ على أنه: «إذا كان إجراء - أو سياسة - ما ينطوي على مخاطرة مشتبه بها في إلحاق الأذى بالعامة أو البيئة، وحال غياب إجماع علمي، فإن عبء إثبات أنه غير ضار يقع على عاتق من يتخذون الإجراء».
ويبدو هذا القول جذاباً، وقد عاون فرنسا وألمانيا في بناء برامج ضخمة للطاقة النووية بدعم شعبي، ويحمل أصداء قسم أبقراط الذي يتلوه الأطباء وينص على «أولاً ألا ألحق الأذى».
جاء إغلاق أوروبا أبوابها أمام «أسترازينيكا» في أعقاب تواتر تقارير عن أن سيدات، بعضهن دون الـ55، توفين جراء إصابتهن بجلطات في الدم بعد تعاطيهن اللقاح. تبعاً للمبدأ الاحترازي سالف الذكر، فإنَّ هذا يكفي لتبرير وقف الاعتماد على اللقاح، بينما ننتظر التوصل إلى إجماع علمي يقر أو يرفض وجود علاقة سببية.
بيد أن الإدارة الأخلاقية للمخاطر تستلزم الموازنة بين المخاطر والمنافع. المؤكد أنَّ جميع اللقاحات تنطوي على مخاطر، في وقت لا يأخذ فيه المبدأ الاحترازي في اعتباره أي فوائد أو منافع ـ حتى لو كانت هذه المنافع القضاء على جائحة شكلت البلاء الأكبر في حياتنا. علاوة على ذلك، فإن كل يوم تأخير يسمح بوقوع مزيد من الإصابات والوفيات، وانتظار لفترة أطول لنشر المناعة بين السكان.
في الواقع، فإنَّ مسألة النظر فقط إلى الجوانب السلبية للقاح ما تشبه إبقاء صندوق معاشات جميع الأموال التي بحوزته داخل الخزائن خشية تعرضها لإمكانية الخسارة حال الدفع بها لشراء أسهم وسندات.
ويستلزم المبدأ الاحترازي من الأطباء إثبات السالب، عقبة مستحيل تجاوزها، حسبما يرى ديفيد ساليسبري، الرئيس السابق لشؤون التطعيم لدى وزارة الصحة بالمملكة المتحدة. وأشار إلى أن جميع اللقاحات تنطوي على مخاطر، لكن حالات الإصابة بجلطات في الدم ليست مثيرة للقلق على النحو الذي قد تبدو عليه.
تبعاً لما أعلنته وكالة الأدوية الأوروبية، الأسبوع الماضي، فإن نحو 20 مليون شخص داخل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي تلقوا اللقاح بحلول 16 مارس (آذار)، ولم ترصد سوى 25 حالة فقط لجلطات من المحتمل أن تكون قاتلة. وأشارت الوكالة إلى أن إجمالي الحالات المسجلة للإصابة بجلطات: «جاء أقل من المتوقع بين مجمل السكان»، الأمر الذي يؤكد أن اللقاح «لم يسبب أي زيادة في مجمل المخاطرة المتعلقة بالإصابة بتجلط الدم».
من جهتهم، ربما جرى تشجيع المسؤولين الأوروبيين على أن يخطئوا على جانب الحذر بفضل المنافسة المستعرة بين اللقاحات المختلفة المتوافرة. وتجدر الإشارة إلى أنه لا توجد سوابق أو بروتوكولات للتعامل مع مثل هذه المواقف.
عام 2020، أصبح واضحاً أن حملة التطعيم العالمية ستعتمد على عدة لقاحات، لكن لم يسبق أن تعامل أحد مثل مشكلات الثقة العامة المرتبطة بهذا الأمر.
في هذا الصدد، قال آرثر كابلان، رئيس أخلاقيات علم الأحياء لدى مركز لانغون الطبي التابع لجامعة نيويورك: «هذا وضع غير مسبوق، ولم يسبق أن فكرنا في كيفية إدارته».
اليوم، ظهرت المشكلة. ومع إعلان شركات مختلفة نتائج تجاربها السريرية بحلول نهاية 2020، أعلنت نسب مئوية عن «الفاعلية»، في إشارة إلى نجاح اللقاح في منع العدوى. وافتخر لقاحا «فايزر - بيونتيك» و«موديرنا»، المتاحان اليوم داخل الولايات المتحدة، بنسبة فاعلية بلغت 95 في المائة بعد الحصول على جرعتين. أما «أسترازينيكا»، فأعلن عن نسبة فاعلية بلغت 76 في المائة، ولقاح «جونسون آند جونسون» المعتمد على جرعة واحدة بلغت فاعليته 66 في المائة.
وبالنظر إلى حوادث تجلط الدماء، فإن مثل هذه الإحصاءات ربما تكون مضللة، ذلك أنه على ما يبدو يتميز «أسترازينيكا» بالقدر ذاته من الفاعلية مثل اللقاحات الأخرى في منع الوفاة أو الحاجة للاحتجاز في المستشفيات بسبب الإصابة بفيروس «كوفيد - 19». وقد حققت جميع اللقاحات حتى الآن نجاحاً بنسبة 100 في المائة في اختبار الموت والحياة. إلا أن الدعاية التي رافقت نتائج التجارب الأولية تركت انطباعاً دائماً بأن بعض اللقاحات أفضل من غيرها. وظهرت أسئلة من عينة من يتعين عليه الحصول على أي لقاح؟ وهل ينبغي منح الأفراد حرية الاختيار؟ وإذا توافرت لقاحات أخرى، هل هذا يجعل من الأسهل على المسؤولين التنظيميين أن يخطئوا بالإفراط في جانب الحذر حال ظهور شكوك؟
المؤكد ان اللقاح منفعة عامة، يستفيد منها الجميع، لكن الجرعات الإجبارية ينبغي أن تكون الملاذ الأخير، ذلك أن للناس حرية تحديد ما يدخل أجسادهم. وإذا كنا أحراراً في رفض أخذ اللقاح، ألا يمكننا كذلك رفض الحصول على لقاح بعينه والمطالبة بآخر بدلاً منه؟
في الواقع هذه مسألة يصعب حسمها، لكن يبدو أن الإجابة النظرية الأمثل: لا. في هذا السياق، أوضح نير إيال، بروفسور أخلاقيات علم الأحياء بجامعة روتغرز، أنه «يفتقد الناس للحق الأخلاقي الجوهري في الحصول على أي مورد نادر يرغبونه. وحتى لو أن هناك تباينات ضخمة في الجودة بين هذه اللقاحات، ليس هناك حق جوهري للأفراد في اختيار أي منهم ينبغي لهم الحصول عليه».
إلا أنه حتى لو كانت السلطات لديها مبرر لقول «خذه أو اتركه»، فإن الكثيرين في عالم الواقع ربما يختارون الانتظار، وهذا الأمر مشكلة لأن الوقت جوهر المسألة برمتها. إذا مارس الناس حقهم في الانتظار للحصول على لقاح «أفضل»، فإن سلالات جديدة وربما أشد فتكاً من الفيروس قد يتاح أمامها وقت أكبر لتثبيت أقدامها. وإذا انهارت الثقة العامة في أي من اللقاحات، فإنه ربما لا يبقى من بديل آخر.
ويثير هذا الأمر بدوره مزيداً من التساؤلات المثيرة للارتباك تتعلق بالعدالة الدولية والاجتماعية. إن باستطاعة جرعات لقاح «أسترازينيكا» إنقاذ الأرواح، لكن إذا جرى النظر إليها اليوم باعتبارها بديلاً رخيص الثمن ومنخفض الجودة، فمن إذن سيقدم على الحصول عليه؟
اليوم، يدعو الكثيرون بالفعل لأن تتبرع أوروبا بالجرعات غير المرغوبة لدول العالم النامي، لكن هل يمكن أن يقدم أي شخص على الحصول على لقاح أتيح له فقط، لأن الآخرين الأكثر ثراءً رفضوه؟ حتى لو كان هؤلاء الأكثر ثراءً على خطأ؟
في هذا الصدد، علق كابلان من جامعة نيويورك قائلاً: «هل تمزح؟ بالتأكيد ستواجه حينها اتهامات بالاستغلال». وينطبق الأمر ذاته على مسألة التبرع بالجرعات للأقليات داخل الولايات المتحدة.
اليوم، تبدو المشكلة مرشحة نحو مزيد من التفاقم، خصوصاً مع وجود مزيد من اللقاحات، التي تعتمد على تقنيات مختلفة قليلاً، في الطريق إلى الأسواق. ويعد لقاح «جونسون آند جونسون» الأرخص من بين اللقاحات الثلاثة التي نالت الموافقة داخل الولايات المتحدة، ومن المعتقد أنه ستتاح منه كميات ضخمة بالنظر إلى معاونة شركة «ميرك» في الإنتاج. ومن المنتظر أن يصبح هذا اللقاح عنصراً محورياً في جهود التطعيم، لكن ماذا سيحدث لو أن الناس لم يرغبوا في الحصول عليه؟
من ناحيتها، لا تعتمد الولايات المتحدة على المبدأ الاحترازي المتطرف الذي تقره أوروبا، وليست مضطرة للمبالغة في ردود أفعالها على أول بادرة من الأخبار السيئة. ومع هذا، تبقى المصاعب التي يواجهها «أسترازينيكا» مهمة ومؤثرة، ذلك أنه في ظل بيئة تنافسية، فإن الثقة في أي لقاح يجري النظر إليه باعتباره أدنى جودة ستكون هشة. وإذا تسببت الأنباء السيئة في هز الثقة في أي لقاح، فسيتعين على السلطات التنظيمية أن تشرح للناس السبب وراء أن منافع هذا اللقاح تبرر قبول مخاطره.
وفي تلك الأثناء، يتعيَّن على أوروبا إيجاد سبيل للتراجع عن المبدأ الاحترازي، الذي ربما أدى المأمول منه في مجال السياسات البيئية، لكنه أثبت خطورته لدى تطبيقه في خضم جائحة.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»