إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

طائرة تسقط كل يوم

رأته في المترو يطالع كتاباً لجان بول سارتر. كان وسيماً وكانت تحب سارتر. أرادت أن تتقرب منه وتفتح معه حديثاً لكنها ترددت. تقضي التعليمات الصحية في وسائط النقل العام بتباعد الركاب. وصلت إلى محطتها وودعته بعينيها. نزلت وفي قلبها حسرة. وفي المساء ذاته نشرت هيلين، الشابة الباريسية الرومانسية، نداء عبر وسائل التواصل تطلب المساعدة في العثور على الراكب المجهول.
في القصص القديمة، كان الحالمون يكتبون رسائل يودعونها زجاجات مغلقة. يرمونها في البحر ويواصلون أحلامهم. يحمل الموج الرسالة من ساحل لساحل عسى أن تصل ليد قارئ بعيد. وفي زمننا أخذت الشاشة وظيفة البحار والمحيطات والأمواج والبوسطجية وقضاة الغرام. حددت هيلين مواصفات الراكب الذي وقعت أسيرة سحره، قالت إنها التقته في الخط رقم 8. بين محطتي «لامادلين» و«الكونكورد»، وكان يحمل كتاب سارتر «الوجودية مذهب إنساني».
تنادت قبائل بني «فيسبوك» وعشائر «تويتر» وشمّرت عن سواعد أبنائها. وما بين مساء الجمعة وصباح الثلاثاء من الأسبوع الماضي، جيء لها بعنوان «مجهول المترو». لكن الفيلم الفرنسي ليس مثل العربي، لا ينتهي نهايات سعيدة. بعثت هيلين برسالة إلى الراكب الوسيم، قارئ سارتر، وطلبت لقاءه. ووصلها منه رد مهذب يعتذر فيه عن عدم لقائها. كتب لها أن له خطيبة يحبها. وكانت فرنسا كلها تتابع تطورات الحكاية من خلال المواقع والصحف ونشرات التلفزيون.
أطاشت «كورونا» عقول الباريسيين والباريسيات. حبستهم في شققهم. فرضت عليهم الإقامة الإجبارية بأمر الحكومة. ما عادوا يعاقرون سوى شاشات هواتفهم. لا مقاهي ولا مطاعم ولا مسارح وسينمات ولا مولات. ورغم ذلك، كلما أطلت الشمس من وراء حجب الغيوم، احتشدت الحدائق العامة وضفاف نهر السين بآلاف المتنزهين. مساجين في ساعة إفراج مشروط. يأتون بالأطعمة والمشروبات ويقيمون احتفالات في الهواء الطلق.
تكتظ المستشفيات بالمصابين. تضيق وحدات العناية المركزة بالمرضى. حتى غرف الممرضات تحولت إلى مساحات للعلاج. يدفعون السرير إلى الحائط ليحشروا في المكان سريراً إضافياً. يوجهون الحالات الفائضة إلى مشافي المدن الأخرى. ينقلون المريض مع الأمصال وقنينة الأكسجين بطائرات الإسعاف والقطارات السريعة المجهزة طبياً. وخلال ذلك يجري التلقيح على قدم وساق. قدم مبتورة وساق عرجاء.
ينتظر الشباب دورهم في تلقي اللقاح. يأملون أن يحين قبل الصيف. لا يفهمون لماذا يجري إنقاذ المسنين الذين تجاوزوا الثمانين والتسعين ومنحهم الأسبقية على حسابهم. أولئك عاشوا أعمارهم وهم لا. وها هي تفرعات الجائحة تتمدد إلى من هم دون الأربعين. فإذا كان الخطر داهماً فليس أقل من اقتناص ملذات ما بقي من عمر.
تحتاج المجتمعات إلى هزة تقرع أجراس الخطر لدى الغافلين. بكى طبيب طوارئ وهو يتحدث أمام الكاميرات. قال إن البلد عرف أسوأ كارثة جوية في السنوات الأخيرة حين سقطت طائرة تابعة للخطوط الفرنسية فوق المحيط الأطلسي ولقي كل ركابها مصرعهم. كان عددهم 228 شخصاً. تخيلوا أن طائرة فرنسية تسقط كل يوم وتقتل 300 ضحية. هذا هو بالضبط ما يحدث اليوم. والطائرة ليست «بوينغ» بل «كورونا». ومثلها أمثال في دول العالم.
لم تلتق هيلين بالراكب الذي خطف قلبها. لكنها نشرت رسالة تتمنى فيها أن يبقى باب الأمل مفتوحاً لزائر مجهول. الكل ينتظر غودو.