كان الكلام عند العرب من فضة، والسكوت من ذهب، واليوم أصبحنا بفضل الثرثرات التي لا تنتهي بين البشر والألسنة التي لا تتوقف، بفضل كل ذلك صار لا يصلحنا كلام ولا حتى سكوت!
والذي يحضر النقاشات أو الندوات العربية مهما كان شكلها أو نوعها أو حتى جمهورها، سوف يلاحظ شيئا غريبا لدى الغالبية الساحقة من الحضور، شيئا لن تخطئه عين، وهو وجود جوع حقيقي لدى الناس للكلام والصراخ ولفت النظر، وإثبات أنهم موجودون حتى ولو قالوا كلمتين فقط.
ومع أن هذه الظاهرة قديمة، لكن العجيب أنها لا تختفي على الإطلاق، بل الأغرب أنها تزداد وتيرة واتساعا وتأثيرا وخصومة، وأحيانا عنفا.
أتذكر أنني حضرت ندوة سياسية في أوائل الثمانينات في إحدى الدول العربية، فما إن انتهى المحاضر من ندوته حتى وجدت الجو مكهربا، وأن هناك فرقا وأحزابا، بل وشخصيات بدت وكأنها متربصة ولا تريد الكلام فقط، بل تريد القيام بأشياء أسوأ.
وبالفعل، بدأت النقاشات نارية صراخية تتطاير منها النار، وكلها ثوانٍ حتى تعالت الهتافات بحياة زعيم هنا ورئيس هناك، وازدادت سخونة التصفيق، وانقلبت خيمة الندوة إلى شيء أشبه بكرة نار تريد أن تتدحرج على الجميع.
بدا المشهد غريبا. فبدلا من أن نسمع نقاشات حرة وكلاما مفيدا، حتى ولو عن طريق الصراخ، غاب ذلك كله وانحصر في التوتر والغضب الذي ظهر على الجميع، وتبين أن هناك موقعة سوف تحدث ولا بد منها.
وخوفا على جسمي الضعيف ومخافة أن يصيبني شيء قررت الخروج من الندوة سالما ومعافى، قبل أن يطعنني أحدهم بـ«شومة»، كما يقول إخواننا المصريون، أو أضرب بعصا فوق نافوخي وأترنّح. فقلت لنفسي السلامة.
المهم حاولت الخروج في ذلك الجو المتوتر، لكن المأساة أنني وجدت نفسي متأخرا، بل ومتأخرا جدا. فقد سد البلطجية من الطلبة كل أماكن الخروج من الخيمة، وكلها دقائق حتى رأيت الكراسي تتطاير من هنا وهناك، واللكمات القوية تضرب في هذا الوجه وذاك البطن، والذي يصرخ، والنساء يبكين حظهن العاثر.
لم ينقص تلك المعركة سوى بعض الأسلحة الأوتوماتيكية من دون مبالغة! فقد كانت معركة محترفين، لا كما كنت أظنهم سابقا محترفين في الكلام فقط، فكانوا يعرفون مهارة القتال وكيفية ضرب الخصوم والتسلل من ورائهم.
كان أكثر ما يهمني وقتها هو طبعا تجنب الكراسي المتطايرة والعصي التي تضرب على الرؤوس، غير أن المعركة زادت من حدتها وراحت الدماء تراق على الأرض وعلى بعض الكراسي، بل ووصلت إلى منصة الندوة.
انتهت المعركة بعد نصف الساعة، والحمد لله لم يكن بها قتلى، ولكن الجرحى كثيرون وأجرى لهم مسعفون متطوعون إسعافات أولية حتى حضور سيارات الإسعاف.
اكتشفت بعد خروجي من الخيمة وتطاير الغبار عن تلك المعركة الطاحنة أن كلامنا أهون على القلب وعلى النفس، وأنه مهما كبر وعلا وازداد صراخا فهو أفضل بكثير من معارك العصي والكراسي، مع أن العرب كثيرا ما يكونون لا يعرفون كيف يتحدثون، وكيف أيضا لا يعرفون حتى كيف يحاربون.
فهناك حروب كلام، لكن لها أصول وقوانين مثل الحروب التقليدية بالضبط.. والله المستعان.
7:52 دقيقه
TT
فضة الكلام
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة