مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

إيران... إمبراطورية الصواريخ والطوابير

حالة الانفصام التي يعاني منها النظام الإيراني تسببت في انفصاله أو ابتعاده عن الواقع المرير الذي يعيشه المواطن الإيراني، نتيجة معاناة حياتية وصحية جعلته قاب قوسين أو أدنى من انفجار اجتماعي واسع، بسبب سوء إدارة الثورة للثروة وتبديدها على مشاريع إمبراطورية وقوة وهمية ليست قادرة على حماية إيران إذا وقعت الواقعة. ففي الوقت الذي يتذمر فيه أكثر من 60 في المائة من الشعب الإيراني من سوء الأحوال المعيشية، أزاح «الحرس الثوري» الإيراني الستار عما وصفه بالمدينة الصاروخية، التي تضم قواعد صواريخ (باليستية) و(كروز)، إضافة إلى منصات حرب إلكترونية. هذا الإنكار للواقع والإصرار على إظهار النظام بكامل قوته وجهوزيته، يعيد إلى الذاكرة مشاهد الاستعراضات العسكرية الضخمة للآلة الحربية السوفياتية التي كان النظام السوفياتي يجريها في الساحة الحمراء، خصوصاً في سنواته الأخيرة، في الوقت الذي كانت فيه شعوب دول المعسكر الشرقي الخاضعة لنفوذه تطالب بحريتها، كما يحدث الآن في لبنان والعراق، بوجه الهيمنة الإيرانية. تستنزف الخزينة الإيرانية في سوريا واليمن كما كانت الخزينة السوفياتية تستنزف بحرب أفغانستان التي كانت الهزيمة فيها أحد أهم أسباب تفكك الاتحاد السوفياتي.
بعد أقل من يومين على استعراض العضلات الصاروخية، أعلن رئيس مجلس الشورى (البرلمان) باقر قاليباف الذي ينتمي إلى مؤسسة «الحرس الثوري» أنه لم يعد بمقدور المواطن الإيراني شراء «أرجل الدجاج». ما قاله قاليباف يكشف حجم معاناة الإيرانيين من سياسة الاحتكار التي تمارسها جهات متنفذة تسيطر على التجارة، إضافة إلى فشل في إدارة الاقتصاد تخطى حدود إيران ووصل إلى العاصمة اللبنانية الخاضعة لنفوذ طهران، حيث يقف اللبنانيون لساعات في طوابير طويلة للحصول على الخبز والزيت والسكر، بعدما فقدت من الأسواق بسبب انهيار العملة الوطنية وتهريب السلع المدعومة من البنك المركزي اللبناني إلى مناطق النظام السوري.
في مشهد الانفصام الإيراني أيضاً، أنه في الوقت الذي توعد فيه قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الجنرال إسماعيل قاآني بسماع تكسير عظام الأميركيين في المنطقة، كانت مظاهرات المتقاعدين الإيرانيين تتوسع في كافة المدن الرئيسية تطالب بدفع رواتبهم ومستحقاتهم المؤجلة وزيادتها لكي تناسب الوضع المعيشي في البلاد الذي يتسبب في زيادة معدلات الفقر، وفي هذا الصدد يقول رئيس لجنة الأجور في مجلس العمل الإسلامي فارامارز توفيقي: «يعيش أكثر من 60 في المائة من المجتمع الإيراني في فقر نسبي لأن أجور العمال تكفي لنحو ثلث تكاليف معيشتهم»، وأضاف أن «نصف من يعيشون تحت خط الفقر يعانون من الفقر المدقع». والجدير ذكره أن المتقاعدين الذين يبلغ عددهم قرابة 4 ملايين ونصف المليون، يطالبون بزيادة معاشاتهم للخروج من تحت خط الفقر، بينما يتلقون 3 ملايين تومان شهرياً من أصل أربعة نتيجة عجز الميزانية العامة، في الوقت الذي يزداد فيه التضخم وترتفع الأسعار بشكل مطرد.
لم يعر الزعماء السوفيات الذين انشغلوا بترسانتهم الصاروخية (الباليستية والاستراتيجية) القادرة على حمل رؤوس نووية تحرق الكرة الأرضية بطوابير المواطنين الروس الذين اصطفوا بالمئات في العاصمة موسكو في ظروف مناخية قاسية من أجل الحصول على الخبز... كانوا يعتقدون أن أعداد الصواريخ والدبابات والطائرات وهالة الجيش الأحمر ستطغى على أرقام العجز في الميزانية وضعف الاقتصاد والكساد، وفي النهاية سقطت الإمبراطورية التي سيطرت على نصف الكرة الأرضية لعقود تحت ضربات الاقتصاد من دون أن يطلق خصومها رصاصة واحدة، وهذا ما لا يريد أن يفهمه النظام الإيراني وأتباعه في سوريا ولبنان واليمن والعراق، أنه من الممكن أن تقمع معارضيك السياسيين ولكن من المستحيل أن تسكت أفواه الجائعين.
وعليه، لا تختلف طوابير الخبز في روسيا السوفياتية في ثمانينات القرن الماضي عن طوابير الإيرانيين للحصول على الدجاج أو اللبنانيين للحصول على الزيت والسوريين على الغذاء، أو عن الواقع المرير لأهالي صنعاء، بعدما سخرت الثروات الوطنية لأهداف توسعية وطموحات إمبراطورية أنهكت الشعب الإيراني وكافة الشعوب الأخرى التي خضعت تحت تهديد السلاح لمشاريع تكدس الصواريخ وتشحذ الخبز.