خالد البسام
كاتب ومؤرخ بحريني
TT

الصف الأول

كان الصف الأول الابتدائي هو أجمل أيام الطفولة وأكثرها براءة وحرية. فككل أطفال العالم ذرفت الكثير من الدموع قبل أن أصل إلى المدرسة الصغيرة التي لم تكن تبعد عن بيتنا سوى أمتار قليلة. فعند الباب الكبير للمدرسة كان هناك فراش يأخذ التلاميذ من أيديهم ويمسح عنهم الدموع المنهمرة بلا توقف.
كانت الدموع في ذلك الصباح كثيرة، فجميع الأطفال كانوا يظنون أنهم لن يغادروا أحضان أمهاتهم الدافئة مهما حدث في الدنيا من زلازل وكوارث، وأن العالم كله اختزل في امرأة حنون ورقيقة وطيبة تسمى الأم.
قبل أسبوع من التحاقي بالمدرسة قام والدي باصطحابي إليها لكي أخضع إلى امتحان، ويا له من امتحان. كان الهدف منه هو اختبار قدرة التلميذ الذهنية وأنه يتمتع بصحة جيدة.
في الصباح الباكر كانت لجنة قبول التلاميذ واقفة كأنها صف من الشرطة في قاعة المدرسة بانتظار الأهالي وأولادهم. وفي لحظات طلب مدير المدرسة من أبي، بعد أن سلم عليه بحرارة، أن أجلس قرب الحائط الذي كان عليه خط أحمر متميز وطويل. لم أكن أعرف شيئا وقتها، ويبدو أن الأمر كذلك بالنسبة لأبي، لكنني في النهاية خضعت للأمر وجلست مستسلما.
بعد ثوان قال لي المدرس المسؤول اخفض رأسك حتى تتجاوز الامتحان. أي امتحان؟ لم أعرف! المهم وجهت رأسي الصغير نحو الحائط، وتبين أنني تجاوزت الخط الأحمر، عندها قال المدرس لأبي مبتهجا: «ابنك تجاوز الخط الأحمر.. بقي الامتحان الثاني»!
كلها ثوان قليلة حتى قال المدرس المتحمس لأبي: «الآن نريد من ابنك أن يضع يده اليمنى على أذنه اليسرى، ويفعل العكس. في تلك المحاولة شعرت ببعض العجز، رغم أنني كنت أحاول بشدة فعل ما يريده المدرس بالضبط.
وفي الوقت نفسه كان أبي المسكين يمسك بيدي لكي أصل إلى الأذن اليسرى أو اليمنى بكل ما يستطيع. لقد شعرت بالكثير من التعب والإرهاق بسبب هذه الحركة السخيفة ولكن ما باليد حيلة!
انتهى الامتحان على خير. ووقفنا ننتظر النتيجة نحو ربع ساعة، ثم فجأة جاء نفس المدرس وصاح أمام عدد من أولياء الأمور: «الناجحون هم: خالد حمد سليمان البسام.. مقبول في الصف الأول أ».
فرح أبي كثيرا ورجعنا معا إلى البيت، وقال لوالدتي التي كانت تنتظرنا بلهفة شديدة: «خالد قبل في الصف الأول، وسوف يدرس في المدرسة بعد أسبوع، هيا استعدي لكل شيء».
كانت الساعة لا تزال مبكرة صباحا ولم تتجاوز السابعة والنصف. في الحال احتضنتني أمي طويلا وبحرارة، وطلبت مني مواصلة النوم.
شعرت لحظتها ولا أزال بأن الطفولة لا يمكنها أن تغادر أرواحنا أو قلوبنا بهذه السهولة، وأن أجمل لحظاتها وأيامها وأوقاتها لا تذهب سريعا، بل تبقى في الذاكرة أحيانا لكي تنير لنا طرقا صعبة في الحياة، وأحيانا كي تشعرنا بأننا كنا أطفالا وكبرنا!
بعض أيام الطفولة أجمل من أن يُكتب، لكن بعضها عصي على ألا نتذكره أو نرويه.