ماكس هاستينغز
- رئيس تحرير صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية السابق- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
TT

مصير الهوية البريطانية بعد «بريكست»

تبدو بريطانيا على الخريطة جزيرة صغيرة غير مرتبة الشكل انفصلت عن أوروبا، لكنها متشبثة بالساحل الشرقي للمحيط الأطلسي. أما الواقع السياسي، فيبدو أكثر تعقيداً، ذلك أن المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وآيرلندا الشمالية تتألف من مجموعة من الدول والأمم التي لم تعِش في انسجام تام بعضها مع بعض قط، وتبدو اليوم على مقربة من أزمة وجودية.
ويؤكد كتاب جديد وضعه المراسل السابق المرموق لشبكة «بي بي سي»، غافين إسلر، أن «الهوية البريطانية ماتت». وفي كتابه الذي يحمل عنوان «كيف ماتت بريطانيا: القومية الإنجليزية ومولد أربع أمم من جديد»، ذكر إسلر، وهو اسكوتلندي، أن: «(بريكست) يعد عرضاً، وكذلك سبباً لاتساع الانقسامات في صفوف الاتحاد».
جدير بالذكر في هذا الصدد أن الانتخابات المقرر عقدها في اسكوتلندا في مايو (أيار)، من المحتمل أن تتمخض عن انتصار كاسح للحزب الوطني الاسكوتلندي. ومن شأن ذلك الفوز بدوره أن يطلق العنان لضغوط مكثفة من أجل إجراء استفتاء جديد حول الاستقلال.
وفي تلك الأثناء، يجد الكثيرون في آيرلندا الشمالية الحياة موحشة ووحيدة، ويجدون أنفسهم محصورين ما بين جمهورية آيرلندا التي لا تزال تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة التي انفصلت عن الاتحاد. كما يعبر بعض أبناء ويلز عن السخط السيلتي على أطراف المملكة التي تترأسها الملكة إليزابيث الثانية.
وثمة احتمال حقيقي أنه في غضون عقد أو عقدين من اليوم، أن تتحول البلاد التي لم يطرأ على ذهن شكسبير قط أن يدعوها غير إنجلترا، إلى إنجلترا فحسب من جديد. وفي حال حدوث ذلك، سيختفي نحو 40 في المائة من مساحة أراضي المملكة المتحدة. رغم أن إنجلترا تضم 84 في المائة من سكان المملكة المتحدة البالغ إجمالي عددهم 68 مليون نسمة.
ومن شأن تفكك الاتحاد إثارة مطالب لإنجلترا بالتنازل عن مقعدها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إقراراً منها بالتغيير الذي طرأ على وضعها. ومن المفترض أنها ستحتفظ بالأسلحة النووية، الأمر الذي سيمكنها من البقاء داخل مجلس الأمن، لكن حال طرح المسألة على الجمعية العمومية للأمم المتحدة، فإنَّ دولاً أخرى منافسة تسعى حثيثاً للانضمام لمجلس الأمن، مثل البرازيل والهند ونيجيريا ستصعد بالتأكيد من مطالبها في مواجهة إنجلترا منكمشة.
الحقيقة أن بعض الإنجليز مثلي تخالجهم مشاعر مختلطة حول المصير المستحق لكثير من أجزاء المملكة المتحدة، التي يجب أن نناقش كلاً منها على حدة، لأن كل واحدة منها تشكل قضية منفصلة.
تأتي آيرلندا الشمالية أولاً، التي لا يعبأ بأمرها السواد الأعظم من البريطانيين. في الواقع، أعتبر من العناصر الاستثنائية بين أبناء جلدتي التي تكن مشاعر ود واحترام تجاه الآيرلنديين. لقد عشت في كيلكيني لمدة عامين في السبعينات، وكتبت تقارير عن الاضطرابات الآيرلندية في عدد من الصحف و«بي بي سي». وباعتباري مؤرخاً، أقر الظلم الهائل الذي ارتكبته الحكومة البريطانية عام 1921 عندما قسمت آيرلندا قبل أن تمنح الاستقلال للجنوب. لقد حدث ذلك بسبب أقلية صاخبة من مليون بروتستانتي، غالبية أجدادهم جرت «زراعتهم» داخل أولستر على يد أتباع أوليفر كرومويل في القرن الـ17، قاومت بشدة الاندماج داخل دولة آيرلندية يهيمن عليها ثلاثة ملايين كاثوليكي.
وكانت هذه جذور الاضطرابات التي اشتعلت في شمال الجزيرة الآيرلندية عام 1969، وبدأت بمظاهرات ضد التمييز الذي يمارسه البروتستانت ضد الكاثوليك من أبناء البلاد. ومن هنا ولد الجيش الجمهوري الآيرلندي، باعتباره حركة كاثوليكية إرهابية أو تناضل من أجل الحرية، حسب وجهة نظرك.
اليوم، لا تزال هناك أقليتان تنظران إلى إبقاء آيرلندا مقسمة باعتباره أمراً إيجابياً. تتألف الأولى من مجموعة آخذة في الانكماش من القوميين البروتستانت الذين يهيمنون على آيرلندا الشمالية، وسيتحولون إلى فئة مهمشة حال ظهور آيرلندا موحدة.
وفي الوقت ذاته، هناك بعض السياسيين في الجنوب الذين تساورهم مخاوف لم يعلنوها قط إزاء مخاطر استيعاب عدة مئات الآلاف من البروتستانت الذين تملأهم مشاعر المرارة. وينبغي أن نتذكر هنا أن العنف لطالما شكل تقليداً آيرلندياً، ولا يزال مختبئاً على مسافة قريبة للغاية من سطح البلاد - أمر يدركه جيداً أي سياسي آيرلندي.
وتكشف استطلاعات الرأي عن ميل أغبية صغيرة في شمال آيرلندا نحو عقد استفتاء حول الوحدة الآيرلندية. وحال حدوث ذلك، وإقدام أغلبية على اختيار الانضمام إلى الجنوب، فإن قليلين للغاية من الإنجليز سيعبأون بالأمر. وحال حدوث إعادة توحد شطري آيرلندا خلال جيل من الآن، الأمر الذي أعتقد أنه سيحدث، فإن هذا سيعني تصحيحاً لظلم تاريخي. وسيخدم ذلك مصالح الشعب الآيرلندي، فيما عدا قلة من البروتستانت الساخطين الذين يعيشون خارج حدود زمنهم.
على الجانب الآخر، تبدو اسكوتلندا حالة مختلفة، فرغم أن عدد سكانها يقدر بـ5.5 مليون نسمة فقط، تشكل مساحتها البالغة 31 ألف ميل مربع نحو ثلث مساحة أراضي المملكة المتحدة. وتملك هذه الأمة تاريخاً وثقافة تفتخر وتعتز بها، ولديها برلمانها الخاص بها منذ عام 1707.
وازدهر الاسكوتلنديون بقوة بجانب إنجلترا خلال القرن 19 وأسهموا بنصيب كبير في الرجال الذين تولوا إدارة الإمبراطورية واستغلوا مناجم الفحم الثرية وأحواض بناء السفن ومصانع الصلب.
إلا أن انهيار الصناعات القديمة أضر باسكوتلندا كثيراً وأجج مشاعر الكراهية تجاه الإنجليز، خصوصاً المحافظين منهم. كما يمقت الاسكوتلنديون الإقطاعيين الإنجليز الذين اعتادوا منذ عهد الملكة فيكتوريا قضاء عطلاتهم في براري اسكوتلندا والتعامل باستعلاء مع أبنائها باعتبارهم مجموعة من الفلاحين.
وخلال السنوات الـ30 الماضية، تصاعدت بقوة شعبية الحزب الوطني الاسكوتلندي. وبعد حصول اسكوتلندا على برلمان خاص بها من جديد عام 1999، جرى النظر إلى الحزب الوطني الاسكوتلندي باعتباره الحاكم الطبيعي للبلاد. ويبدو هذا أمراً مثيراً للدهشة بالنظر إلى الأداء الرديء لزعيمة الحزب، نيكولا ستيرجن، الأمر الذي تجلى في تردي مستوى الخدمات الصحية والتعليمية، وهو ما كشفته أزمة جائحة فيروس «كوفيد - 19» بجلاء.
وتكمن المفارقة في أن الاسكوتلنديين قادرون على التعايش مع إخفاقات ستيرجن فقط بفضل الدعم المالي المقبل من لندن. وحال إقدام ستيرجن، الأمر الذي يبدو محتملاً بدرجة كبيرة، على استغلال نجاحها في انتخابات مايو لعقد استفتاء حول الاستقلال، ستتحول مسألة الدعم المقبل من لندن والبالغ 15 مليار جنيه إسترليني إلى قضية كبرى. وعليه، فإن التساؤل الحقيقي الآن ليس «هل يرغب الاسكوتلنديون في الاستقلال؟»، وإنما «هل بمقدور الاسكوتلنديين تحمل تكاليف الاستقلال؟».
أما المنطقة الثالثة فهي ويلز التي يبلغ تعداد سكانها نحو 3 ملايين نسمة، وتقدر مساحة أراضيها بنحو 8.200 ميل مربع، ما يجعلها تعادل نحو ربع مساحة اسكوتلندا. ويشن المجلس الويلزي الذي جرى تدشينه عام 1998، حملة مستمرة للتأكيد على الهوية القومية، بما في ذلك اللغة الويلزية.
ويكاد يكون في حكم المستحيل إنجاز الويلزيين محاولة ناجحة للاستقلال، نظراً لاعتمادهم على الدعم المالي الإنجليزي بدرجة تفوق اعتماد الاسكوتلنديين. علاوة على ذلك، فإن استطلاعات الرأي تكشف تأرجح نسبة تأييد فكرة الاستقلال بين الويلزيين ما بين 10 في المائة و30 في المائة من الناخبين. وتعكس النسبة الأخيرة شعوراً قصير الأمد بالسخط تجاه حزب المحافظين الإنجليزي أثناء الحكم أكثر من كونه شعوراً وطنياً حقيقياً.
وعليه، فإنني أعتقد أن أبناء ويلز لن يتخذوا أي خطوات نحو الاستقلال، بينما يبدو ذلك محتملاً فيما يخص الاسكوتلنديين، ويبدو لي خطوة واجبة من جانب أبناء آيرلندا الشمالية.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»