عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

النصير الجديد

«نصير حرية التعبير» منصب جديد أعلنه غافين ويليامسون، وزير المعارف في المملكة المتحدة. «النصير»، وسيرأس قسماً تحت الوزارة، مهمته حث المؤسسات التعليمية والجامعات على الالتزام بحرية التعبير وحرية البحث العلمي، ولا تعرقل التقديم والإنجازات العلمية عن طريق الرقابة.
اتخاذ هذا الإجراء في أعرق الديمقراطيات ثمانية قرون بعد الماغناكارتا، أمر يدعو للتعجب، لكن ما يثير القلق تدخل الحكومة في تقاليد الحرم الجامعي؛ مما يهدد استقلالية الفكر والفلسفة والعلوم والابتكار. المعضلة، أن هذه الاستقلالية مهددة اليوم، من تيارات يفترض أن تكون الرائدة في حرية التعبير والفكر، التيارات الليبرالية التقدمية.
القرار عرّض الوزير ويليامسون لهجوم واتهامات بمحاولة صرف الانتباه عن سوء إدارة حكومة بوريس جونسون للتعامل مع وباء «كوفيد - 19» المستجد، وأن النصير سينتصر لقيم المحافظين في الحرب الثقافية الدائرة اليوم.
الهجوم من منابر اليسار ومواقع التيارات المعروفة بالـWoke. تعبير الووك، يعرفه اليسار بـ«العدالة الاجتماعية التقدمية»، ويعرفه المحافظون بلائحة «قلب الدنيا رأساً على عقب»، أي الحركات الفوضوية والماركسية والنسوية والبيئية (المناهضة للنشاط الصناعي في البلدان الديمقراطية فقط) مثالاً لا حصراً، ونعتذر للجماعات والأقليات والتيارات التي لم نذكرها لضيق المساحة الصحافية؛ وفي قاموسنا الصحافي «الووك» هي الاتجاهات التي تنضوي تحت لافتة «خالف تعرف».
سألت أحد مستشاري الحكومة المقربين من ويليامسون، ألم يفكر في عواقب هذه السياسة عند مناقشتها في البرلمان، حيث ستستغله المعارضة، والهجوم عليه من صحافة تشكل الرأي العام؟
كما أن وسائل التواصل الاجتماعي التي ظهر جبروتها في إخراس رئيس أقوى وأغنى دولة في العالم، وحجب قارة أستراليا بأكملها عن «فيسبوك»، تنتمي للـwoke؟ ألا يخشى الوزيرُ الناخبَ والرأيَ العام، والبلادُ اليوم يجتاحها ما يشبه الثورة الثقافية التي صفى بها ماو تسي تونغ (1893 - 1976) الخصوم وضمن سيطرة الشيوعية على الصين؟
نصحني المستشار بقراءة استطلاع الرأي، وحساب المقاعد البرلمانية في وستمنستر، ففيها الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها بشأن وزير المعارف ويليامسون.
بالنسبة لتوزيع المقاعد البرلمانية، فلدى حزب الحكومة أكبر عدد من المقاعد البرلمانية (376) منذ الثمانينات؛ مما يعطيهم أغلبية 102 مقعد. وذلك نتيجة تصويت دوائر تقليدياً عمالية، والمحسوبون على اليسار الليبرالي (تيار «الووك») صوتوا للمحافظين في انتخابات 2019. وهذا يقود إلى الجزء الثاني من إجابة المستشار بشأن استطلاعات الرأي. فالانتخابات التي منحت المحافظين الأغلبية جاءت أمام خلفية من تقارير سلبية ضد المحافظين، كانت بمثابة حملة صحافية ضد تيار «بريكست» الذي يتزعمه جونسون.
أما تناول الوسائل الصحافية الليبرالية واليسارية لأداء حكومة المحافظين طوال عام، خاصة فيما يتعلق بالوضع التجاري والمالي ما بعد «بريكست» فغاية في السلبية، بينما تركز هذه الوسائل على الأخطاء والتقصيرات في التعامل مع الوباء وإصابات «كوفيد - 19» المستجد. ورغم ذلك تمنح استطلاعات الرأي العام المحافظين (42 في المائة) من الأصوات بزيادة خَمس نقاط على حزب المعارضة العمالي (37 في المائة)، ولو كانت المنابر التي تروّج لمفاهيم الـ woke ووسائل ليبرالية يسارية كالـ«بي بي سي» تعبر عن الرأي العام لكانت استطلاعات الرأي تضع العمال بما لا يقل عن سبع نقاط، وتاريخياً تنخفض شعبية الحكومة إلى ما دون شعبية المعارضة في العام الثاني من انتخابها.
وربما هذا ما دفع وزير المعارف إلى تعيين نصير لحرية التعبير في قرار يبدو مجازفة ويجعله هدفاً لمنابر الصحافة الليبرالية، وهو الخطأ الذي وقع فيه الرئيس الأسبق دونالد ترمب باستعداء الصحافة، التي تمكنت، بمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي، من الإجهاز عليه انتخابياً.
هل يعبر ويليامسون (وعدد من الوزراء ونواب المحافظين) عن رأي الأغلبية الصامتة؟
الأمر يتجاوز الأغلبية الصامتة في رأي رئيس تحرير «الصنداي تلغراف» اليستر هيث، وهو متخصص في أمور المال والاقتصاد وإدارة البنوك. يقول هيث، إنه لاحظ أثناء عمله في حي المال والبنوك وعلاقته بالمستثمرين والبورصة (كان رئيساً لتحرير صحيفة «سيتي إيه إم» المتخصصة في المال والأعمال)، أن رجال الأعمال والعاملين في هذا القطاع أغلبيتهم الساحقة من المحافظين قلباً وقالباً؛ لأن سياسات المحافظين الاقتصادية توفر المناخ الأفضل للاستثمار، وفي الأسابيع الماضية ارتفع سعر الجنيه الإسترليني إلى أعلى مستوى له في أربعة أعوام (140 سنتاً أمام للدولار)، وهو ما تتجاهله الـ«بي بي سي» في نشراتها، خاصة أنها تنبأت بانهيار الجنيه بعد «بريكست». ويضيف هيث، أن كل معارفه في قطاع المال والأعمال لا يجاهرون بتصويتهم للمحافظين، ورغم أن أغلبية هؤلاء المستثمرين كانوا من المتبرعين للحملات الانتخابية للمحافظين، فإنهم خفضوا تبرعاتهم في العامين الماضيين دون 7500 جنيه لكل حملة انتخابية أو دون 1500 جنيه في العام (الحد الأدنى لإخفاء اسم المتبرع).
ما يقصده هيث، أن مؤيدي المحافظين، وكثيراً من الديمقراطيين الكلاسيكيين المتمسكين بحرية التعبير والرأي والبحث العلمي والفكر النقدي، يمارسون ما يعرف بـ«التقية»، وبالتالي عند التعامل مع الصحافة أو وسائل التواصل الاجتماعي يبقي مؤيدي المحافظين معتقداتهم سراً لا يبوحون به إلا لصندوق الاقتراع.
الأمر وصل في الجامعات البريطانية إلى ما يشبه محاكم التفتيش في العصور الوسطي، حيث تجبر مجموعة غاضبة من الطلاب إدارة الكلية أو المعهد على إلغاء محاضرات وتعديل مناهج يرونها مناقضة لمبادئ الموضة السائدة لـ«الووك» والتي قد تتغير بلا سابق إنذار، كما حدث مع منع الفيلسوف الإنجليزي الراحل روجر سكروتون (1944 - 2020) من إلقاء المحاضرات باعتباره يروج لفكر المحافظين. علماء وفلاسفة ومفكرون فُصلوا من مناصبهم الأكاديمية لمزحة تبادلوها في الماضي مع أصدقاء في حفل، لكن نكتة الأمس أصبحت جريمة اليوم.
الأمر وصل لوزير التعليم بأن الأكاديميين اليوم يمارسون التقية، لدرجة إحجام البعض عن نشر نتائج البحث العلمي والاكتفاء بتبادلها بين الزملاء، منسوخة فقط على الآلة الكاتبة؛ فإرسالها عبر الإنترنت يحمل مجازفة أن تتحول إلى أدلة إدانة عند المثول أمام قضاة محاكم تفتيش القرن الحادي والعشرين بأن البحث عنصري أو يجرح مشاعر بعض الجماعات والتيارات في المجتمع.
نصير حرية التعبير في حد ذاته ليس حلاً مستديماً لأزمة غير مسبوقة في مؤسسات التعليم العالي؛ لأنه في النهاية منصب يخضع لأهواء الساسة، وبدورهم لا يمكن الثقة بهم.