رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

محنة السياسات الأميركية والمحنة بها!

يريد روبرت فورد سفير الولايات المتحدة السابق لدى سوريا، وهو ديمقراطي متحمس، أن يُطمئن أصدقاء الولايات المتحدة إلى أنّ إدارة بايدن لن تخيّب الآمال والانتظارات، وبخاصة ما وعد به بايدن وأنصاره الناخبين في معاركهم الأخيرة. والصبر المتعب الذي يكون على أنصار الرئيس خصوصاً في الخارج الاعتصام به، له سببان: حاجة الرئيس إلى استكمال التعيينات في إدارته، وهو يحتاج في ذلك إلى موافقة الجمهوريين، فليس من المصلحة تعميق الخلاف معهم فيعرقلون التعيينات. والأمر الآخر الحاجة إلى «تشاور بارد» مع كل الأطراف الخارجية، وبخاصة الحلفاء، سعياً للجدوى والتماسك وإحداث توازن حقيقي في المجالات التي ضغط فيها الرئيس ترمب، وما أمكن التقدم فيها. ونموذج المسائل التي لا يستطيع بايدن، في نظر روبرت فورد، التقدم فيها بسرعة هي قضايا مثل الملف النووي الإيراني وحقوق الإنسان وحرب اليمن والحرب التجارية مع الصين والنووي الكوري الشمالي، والمزيد من تحسين العلاقات مع كوبا! وهو يذهب إلى أن أُناساً مثل فريد زكريا وهاري كازيانس يستبطئون كثيراً خطوات بايدن الوئيدة في هذه الملفات!
إنّ المشكلة في السياسات وفي التوقعات هذا الافتقار إلى العزيمة والتماسك في السياسات الخارجية لدى الإدارات الديمقراطية بالذات، بينما تشكو الإدارات الجمهورية من الاندفاعات الراديكالية التي تعود في كثيرٍ من الأحيان بالضرر على موقع الولايات المتحدة في العالم. فالحرب على العراق عام 2003 ما كانت ضرورية ولا مبرَّرة على الإطلاق، ولا كانت الاندفاعات تجاه بنيامين نتنياهو في قضية فلسطين أيام دونالد ترمب مفهومة أو مبرَّرة بأي هدف سياسي واستراتيجي بنّاء.
لكن من ناحية أخرى، ومن دون تشاورٍ مع الحلفاء والأصدقاء، عمد بايدن إلى إلغاء أمر ترمب اعتبار الحوثيين جماعة إرهابية، ووقف الدعم العسكري بحجة تسهيل المساعدات الإنسانية، وفتح الطريق نحو السلام. وقد قال كثيرون وقتها إنّ لدى الإدارة التي لم تتشاور مع الخليجيين معلومات ووجوه تواصل ولا شكّ ولو من طريق المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث والموظفين الدوليين (وكلا الطرفين كان ضد الإعلان عن إرهابية الحوثيين). ثم تبين أنه ما حصل لا هذا ولا ذاك، حين مضى غريفيث المتحمس لمسالمة الحوثيين، إلى طهران وعاد بخُفّي حنين. وتوالى التصعيد الإيراني ضد الولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها بمن في ذلك الأوروبيون من عشرات الصواريخ والمسيّرات ضد المملكة، وهجمات صاعقة ضد مأرب والحديدة، والآن الهجمة على القاعدة الأميركية على مقربة من مطار أربيل. وبماذا تجيب الولايات المتحدة؟ باستنكار الهجمات، وتأييد المملكة في حماية أرضها وأجوائها، والحديث مع الحوثيين باستثناء قادتهم الباقين تحت العقوبات!
هناك بالفعل أجنحة يسارية وثأرية في الحزب الديمقراطي، دخلت في إدارة بايدن، وهي تؤثّر في سياساته، بما لا يخدم الاستقرار في محيطنا وفي محيط الولايات المتحدة. منذ جون ديوي ووصولاً إلى جون راولز والمحافظين وجماعات اليمين هناك التأكيد على قواعد المبادئ والسياسات البراغماتية، والتي تعني تعظيم المنافع وتخفيف الأضرار أو التقليل منها. وقد تكرر هذا التأكيد عشرات المرات في فترتي أوباما، وما كانت هناك منافع بل أضرار كبرى على أميركا وعلى الاستقرار في العالم وبخاصة في منطقتنا. ما دخل الديمقراطيون العراق لكنهم أصرّوا على الخروج منه، ورغم استغاثة الأكراد والسنة وأطراف أُخرى عديدة حتى تركيا؛ فإنّ أوباما خرج مسلِّماً الأمر إلى إيران، لكي يضطر للعودة عام 2014 - 2015 وليس على وقع صعود «داعش» كما يحسب المراقبون؛ بل أيضاً لدخول روسيا القوي إلى سوريا. وتتابعت تخفيضات ترمب في سوريا والعراق، ليعود الحديث الآن عن زيادة عدد القوات في العراق وفي سوريا! وما يقال عن العراق وسوريا يقال عن أفغانستان وأذربيجان وأوكرانيا ومواطن أخرى في أميركا اللاتينية على رأسها فنزويلا. تأتي إدارة جمهورية فتستخدم أقصى الضغط الاقتصادي والأمني وربما العسكري، ثم تأتي الإدارة الديمقراطية فتتراخى فتندفع القوى الإقليمية وروسيا والصين للحلول محلَّها. فحتى الاتحاد الأوروبي عقد اتفاقية للتبادل التجاري مع الصين، وبمقتضاها صارت الصين شريكاً أول في عام 2020 وسط جفاءٍ مع إدارة ترمب نصفه مصنوع من جانبه!
إنّ كلَّ الشواهد تشير حتى الآن إلى أنّ الديمقراطيين كانوا في السنوات الماضية يعدّون جدول أعمال في حالة نجاحهم لمواجهة مقاربات ترمب في كل إجراءاته وقراراته المبرَّرة وغير المبرَّرة. وبدلاً من التقييم الهادئ أو المراجعة، أقبلوا على بدء الإنفاذ في شتى المسائل، وإذا صحَّ ما افترضه مراقبون عديدون فسيمضي بايدن في المستقبل القريب باتجاه كوبا وفنزويلا، وقد يُنهي الحرب التجارية مع الصين، ليس لأن ذلك هو الأكثر فائدة، بل لأن ترمب هو الذي شنَّها!
إنّ الذين يثيرون الاضطراب، ويعتدون على الآخرين، يكون عليك أنت صاحب القوة العظمى أن تقمعهم ثم تستوعبهم. والذي جرى حتى الآن حتى أيام ترمب هو الضغط من أجل الاستيعاب. لكنّ إدارة بايدن لا تبدأ بالضغط أو لا تتابعه، بل تريد التوصل للاستيعاب من طريق الجوائز والترضيات كما فعل أوباما. وهذا هو رأي الاتحاد الأوروبي فيما يتصل بالنووي الإيراني. لكنّ جوائز أوباما كانت مرتفعة الثمن إلى حدّ أنها أدت إلى عدة حروب، وتسببت في تخريب عدة بلدان، بينما من المفروض أن يكون الأميركيون هم الأكثر معرفة بالنظام الإيراني بالنظر إلى تجاذباتهم معه منذ أربعين عاماً!
على سياسة التهدئة بعد عواصف ترمب، تلقت إدارة بايدن حتى الآن ثلاث صدمات: هجمات اليمن، وهجمات أربيل، وانقلاب ميانمار. أما ارتكابات اليمن وأربيل فتحتضنها إيران بالكامل؛ في حين تشارك الصين في انقلاب ميانمار.
وهكذا فإذا كانت السياسات ناجمة عن ذهنية؛ فإنه لا أمل في تغييرها، بغضّ النظر عن التجارب. وقد كان الأمر على ذلك أيام أوباما إلاّ مع نتنياهو. إذ لم ينجح في أن يستخدم معه تذاكيه، الذي استخدمه مع سائر الأطراف وحتى مع حلفائه الأوروبيين. أما إذا كانت هناك عودة إلى استخدام البراغماتية في تطبيق المبادئ؛ فستكون هناك – حسب روبرت فورد – عودة إلى حسابات الاستقرار في المدى الطويل، وهو الأمر الذي يرجوه البابا فرانسيس أيضاً من الرئيس الجديد. البابا يأمل أن تقترن سياسات الاستقرار بالرحمة والعدالة معاً، أو يَحول الاستضعاف وانتهاز الفرص والتغالب دون تحقيق أي هدفٍ باتجاه إنسانية الإنسان وحياته الكريمة.