إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

ناقتها وبعيره

إعلان يغريك بالقراءة، محمول على جانب حافلة النقل العام: «ابعث بطاقة حب فوق غيمة». يا لهؤلاء الباريسيين، يعيشون ويموتون في الحب. آمور آمور آمور. كلمة تقرأها كل ساعة في المطبوعات. تسمعها في الأغاني وبرامج التلفزيون وحتى في خطابات المسؤولين. مدام كورونا تحصد من هنا ومسيو آمور يواسي من هنا. تمضي الحياة يداً بيد في وئام مع الموت. هل هم في حاجة لعيد مخصوص للحب؟
كيف نبعث، يا محفوظ السلامة، برسالة فوق غيمة؟ يقترح عليك الإعلان ثلاثة نماذج لثلاث بطاقات ورديات ساذجات. رسم على البطاقات طفلان عاشقان يصطادان، من فوق السحاب، القلوب بالصنارة. هل الورد الأحمر ومشتقاته من قلوب ودباديب، هو الممثل الشرعي والوحيد للحب؟ تهطل السذاجة على مشاهدي التلفزيون من عشرات الأفلام الأميركية التي تم سلقها على عجل، كما يسلق البيض، خصيصاً لهذا الموسم. يأتي البطل الوسيم من المدينة الكبرى إلى بلدة صغيرة ليلتقي البطلة الجميلة التي سيقع في غرامها من أول «عركة». إنه يتأبط خرائط مشروع استثماري لتحديث البلدة الريفية وتشييد مجمع تجاري كبير في قلبها. أما هي فتقاوم المشروع بكل قواها لأنه سيبتلع المكتبة الجميلة التي ورثتها عن أبيها. المال يواجه الثقافة. يا للعنوان المبهر. فمن ينتصر؟ الحب يا ذكي. يذوب الخلاف ويتصالحان ونحضر عرسهما. وهنا لا بد من تقديم واجب الاعتذار للأفلام الهندية التي كانت توصف بالرومانسية المفرطة التي تخرّ من الأذنين.
منذ الصباح الباكر ليوم الفالانتاين، ينزل مراسلو القنوات ومراسلاتها إلى الطرقات لكي يجسّوا إحساس المحتفلين و«رجل الشارع». أي شارع؟ كلهم أفندية. يوقف واحدهم سيارته كيفما اتفق ويسرع لشراء الورد لزوجته أو لمحبوبته. ولا داعي للبحث عن الفرق بين الزوجة والمحبوبة. إذ يحدث في مثل هذا اليوم أن تنفد باقات الأزهار الحمراء من الدكاكين. ما سعر الغنيمة مقارنة بربطة الخبز؟ سؤال لا يطرحه سوى الموتورين في هذا الوقت العصيب من مصير البشرية.
ولأنه وقت جائحي عصيب، تطوع موقع فرنسي متخصص في العلاقات العاطفية عن بُعد، لتقديم ثلاثة نصوص يمكن لها أن تلهم العاشق في كتابة رسالة إلى محبوبة بعيدة. نعم. هناك من يفضل الحب المتباعد، بسبب الوباء أو بدونه. ولله في خلقه شؤون. والمثل العربي القديم يوصينا: «زر غباً تزدد حباً». أليس هذا ما شكا منه الشاعر ابن زيدون: «أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا»؟
لكن التنائي صار مزحة. وعفريت صغير في اليد خير من عشر رسائل على الغيمة. هاتف يفك المربوط بنقرة أو نقرتين. ويبطل المسحور ويحضر المحبوب بالصوت والصورة ورمش العين. لم يعد هناك من يمتشق القلم كي «يدبّج» رسالة يقول فيها أنا مشتاق وعندي لوعةٌ. مع أننا من أمة تهوى اللوعة. ولها باع في الشعر وفي الحب الذي ابتكرت له عشرات المفردات. واحدة لا تشبه أختها. تصف كل منها درجة معينة من حرارة مرجل الهوى. وهي مشاعر قد تتعدى أصحابها إلى ما يملكون من حيوانات أليفة ومطايا. والشاهد ما قال المنخل اليشكري: «وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري».
أما من غضبت عليه أقداره وأدارت له آلهة الحب ظهر المجنّ، فهو من عاش مجرداً منه. والسبب كامن فيه على الأغلب. يرفض أن يغمض عينيه ويقفز في هوة المغامرة. والأتعس منه من برد مرجله وبات يقتات من حب فاتر وبائت. ولست قاضية غرام لكن حافر عمودي الأسبوعي وقع على حافر الرفيق فالانتاين وما باليد حيلة... ولا وردة.