نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

لماذا لا تُفرض ضريبة الكربون على الاستهلاك؟

بينما كان نائب رئيس الوزراء الصيني يخاطب «قمة التكيف المناخي» التي استضافتها هولندا الأسبوع الماضي، كان الرئيس الصيني يتحدث إلى المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس)، الذي عقد اجتماعه افتراضياً هذه السنة. وقد يكون التفاوت في مستوى التمثيل تعبيراً عن الاهتمامات والأهداف الحقيقية. الرسالة المشتركة بين الخطابين واحدة، وهي أن جائحة «كورونا»، على فظاعتها، يمكن أن تشكل فرصة لإعادة البناء على أسس جديدة، تقود إلى كوكب أكثر عدالة ونظافة وصحة. ولكن الرسالة إلى رجال الأعمال في «دافوس» كانت صريحة في تسويق الصين بصفتها الشريك الأفضل للمرحلة الجديدة، تحت شعاري العدالة والمساواة.
حين تبين، الصيف الماضي، أن جائحة كورونا قد تَحُول دون انعقاد دورة 2021 للمنتدى الاقتصادي العالمي في منتجع «دافوس» السويسري، أطلق رئيس المنتدى كلاوس شواب نظرية «البداية الكبرى». وانسجاماً مع رواج الاجتماعات الافتراضية، استخدم شواب لغة الكمبيوتر من خلال عبارة reset، أي محو الماضي والبداية من جديد. كما أطلق «منتدى دافوس» في يوليو (تموز) حواراً افتراضياً حول الموضوع، دعا إليه، كالعادة، رؤساء الدول والشركات الكبرى، وصولاً إلى اجتماعه السنوي الأسبوع الماضي. الاجتماع لم يختلف عن سابقاته إلا بانتقاله من الفنادق الفخمة في المنتجع الثلجي إلى شاشات الكمبيوتر. فالمتحدثون هم أنفسهم، وإن كان شواب مهّد للمنتدى بشعارات جديدة، اختصرها كتاب أصدره مع انطلاق الاجتماعات بعنوان «رأسمالية أصحاب المصلحة». وفيه يدعو إلى إعادة تركيب النظام الاقتصادي العالمي بإدخال جميع فئات المجتمع بدل الاقتصار على كبار المستثمرين والمساهمين.
مناقشات جلسات المنتدى الافتراضية، مثل شعارات كلاوس شواب، حملت الكثير من الوعود الجميلة، ابتداءً من توزيع الثروة بعدالة وترشيد استخدام الموارد الطبيعية وحماية البيئة، وصولاً إلى تأمين التعليم والصحة للجميع. ولكن المتحدثين لم يطرحوا بدائل جدية، تتمثل في وضع قوانين ولوائح تنظيمية صارمة، وحماية الإنتاج المحلي من الممارسات الإغراقية، وإقرار تشريعات ضريبية توزع الأعباء بعدالة. والأهم من هذا كله، إعادة النظر في ممارسات العولمة التي تحرم الدول الصغيرة، كما صغار الصناعيين والمزارعين والمنتجين عامة، من فرص متكافئة. وإذا لم يتحقق هذا، فكيف يمكن تحويل «أصحاب المصلحة»، بجميع فئاتهم، إلى «مساهمين»؟ ولكن ما دام «دافوس» نادياً مغلقاً تتحكم فيه الشركات الكبرى التي تسيطر على الاقتصاد، وحجم بعضها أكبر من الدول نفسها، فهل يمكن أن ننتظر تخلي هذه الشركات عن مطامعها طوعياً للمساهمة في حل مشكلات العالم؟
البند الأهم على جدول أعمال منتدى دافوس كان مساعدة القادة على اختيار حلول مبتكرة وجريئة للتغلب على آثار جائحة كورونا. لكن أيكون جدول الأعمال هذا مفصلاً على قياس الشركات الكبرى أم الناس الذين يدعي خدمتهم؟ وكيف يمكن أن تصل فوائده إلى جمهور لم تتم استشارته في بنوده؟ الأكيد أن وصول فوائد التنمية إلى الجميع يتطلب تنازل الشركات عن كثير من مكتسباتها. وهذا يعني نهاية الشركات العاملة في نشاطات ملوثة وغير مستدامة بيئياً، ما لم تكن مستعدة لتعديل جذري في عملها. فهل توافق هذه الشركات على كتابة نهايتها طوعاً، أم أن القوانين وحدها هي الكفيلة بإجبارها على تغيير مسارها؟ وإذا لم تكن القيود والضوابط على أعمال الشركات في صلب اهتمامات دافوس في أي وقت، فكيف يمكن تحويل الوعود إلى حقائق؟
على المستوى السياسي، حملت كلمة الرئيس الصيني تشي جين بينغ، في مؤتمر دافوس رسائل مهمة، تحت عنوان احترام التعددية في العلاقات الدولية. فهو دعا إلى تطوير سياسات في التعاون الاقتصادي ما بعد «كورونا» تدعم النمو القوي والمتوازن الذي يشمل الجميع، وجدد التزام الصين بأهداف التنمية المستدامة والنمو الأخضر، وسد الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية. لكنه شدد، مرة أخرى، على أن الصين جزء من العالم الثالث والدول النامية. وفي هذا تكرار لتثبيت حق الصين باستثناءات في تطبيق الالتزامات المفروضة لخفض الانبعاثات الكربونية. فمع تأكيده التزام الصين بمتطلبات اتفاقية باريس المناخية، أعلن هدفاً غامضاً في الوصول إلى أعلى مستويات الانبعاثات سنة 2030، وبدء تخفيضها بعد تلك السنة، وصولاً إلى إلغائها بالكامل سنة 2060. وليست الصين وحدها في هذا الموقف الملتبس، إذ تشاركها دول أخرى في وضع أهداف بعيدة المدى، من دون الالتزام بمستويات محددة لقياس التقدم سنوياً. ويمكن تشبيه هذا الوضع بصاحب بيت يحترق، لكنه بدلاً من العمل فوراً على إطفاء الحريق يستخدم النار المشتعلة للتدفئة وطهو الطعام، ويَعِدُ بإطفائه بعد 40 سنة، حين تكون النار التهمت البيت وما حوله.
في ظاهر الكلام الصيني دعوة إلى الانفتاح والتعاون واحترام التعددية، على القوى العالمية الكبرى الأخرى التعامل معها بإيجابية. صحيح أن الصين تستغل الاستثناءات البيئية لزيادة إنتاجها بتقنيات رخيصة ملوثة، وتحاول تمديد «فترة السماح»، أو الحق بالتلويث، أطول فترة ممكنة، لتثبيت موقعها الجديد في الاقتصاد العالمي. لكن الصحيح أيضاً أن الدول الأخرى تستغل هذا الواقع لنقل عمليات الإنتاج إلى الصين واستيراد البضائع الرخيصة منها، وفي هذا خداع متبادل.
فهل تقبل الدول الغنية، التي حولت الصين إلى منطقة صناعية خلفية تروي عطشها إلى منتجات رخيصة، أن يتم حساب الانبعاثات الكربونية من المنتجات الصينية في الدول المستهلِكة ووضعها في خانتها؟ وهل تقبل الصين والدول المستهلِكة لبضائعها بوضع تعرفة استيراد مرتبطة بالبصمة الكربونية لكل نوع من البضاعة، أكان قلماً أم سيارة؟ إذا حصل هذا، فقد تنخفض انبعاثات الكربون الصينية إلى أقل من النصف. وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فهل تقبل كبريات الدول المستهلِكة للنفط أن يتم حساب الانبعاثات الكربونية حيث يتم استخدام النفط لا حيث يتم استكشافه وإنتاجه؟
قد يكون وضع ضريبة كربونية على الاستهلاك الحل الأكثر فاعلية وعدالة لإدارة الموارد ورعاية البيئة والتحكم بالتغير المناخي.

* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»