سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

العودة إلى «الصوت»

الشائع أننا في عصر الصورة، وعلى هذا بنى أصحاب مشاريع المرئي خططهم الطموحة، وحصدوا المليارات. وجاءت «نتفليكس» بنجاحها الكاسح وقبلها «يوتيوب»، لنتأكد أن ثمة في عالم الفرجة، ما هو أكثر فتنة من التلفزيون، حين تعطي المشاهِد حرية اختيار برنامجه أو فيلمه، في اللحظة التي يحب. ومع اقتراب الاحتفال باليوم العالمي للإذاعة، نشرت «وكالة الصحافة الفرنسية» تقريراً لافتاً حول الشعبية المتزايدة للـ«بودكاست» أو «المدونات الصوتية» التي زاد عددها في السنوات الخمس الماضية 17 ضعفاً، في حين ارتفعت نسبة الاستماع إليها ثلاثة أضعاف. وهذا من المفاجآت غير المتوقعة، خاصة أن التسجيلات الصوتية الرقمية، بدأت في الظهور على الشبكة، مع مطلع الألفية الثالثة، بفضل هواة مخلصين، من دون أن تلقى شعبية تذكر. لكن الأمزجة تتغير بأسرع مما هو منتظر، والإنسان الذي نهشته الصور وحاصرته الأشرطة، صار ربما يرتاح لصفاء الإصغاء. ففي فرنسا وحدها أحصي أكثر من مائة مليون استماع إلى البودكاستات في الشهر الواحد. وهو ما يفتح أعين المعنيين، على كنز دفين، بكر، يستحق الاستثمار فيه.
تحمّست منصة «سبوتيفاي» السويدية الشهيرة، التي تستحوذ على أكثر من ربع السوق السمعية، على البدء بمشاريع مستقبلية بمبالغ ضخمة بانتظار الحصاد. ولا يقلل من الاندفاعة، أن يكون نمو الإعلانات بطيئاً، فالغد واعد، والمؤشرات مشجعة.
ومع أن كثيرين لا يزالون يجهلون ما هو «البودكاست»، غير أن صحيفة «نيويورك تايمز» منذ عام 2017 تمكن برنامجها الشهير «ثي دايلي» من أن يحصد مليوني تنزيل لكل حلقة. وسجلت الصحافة المكتوبة اختراقاً حينها، بتقديمها برنامجاً مسموعاً، بنجاح لا تحلم به إذاعة عريقة. غير أن الأميركيين ليسوا الأكثر حماساً للمدونات المسموعة؛ فالنمو الأبرز للتسجيلات تجده باللغة الهندية، تليها الصينية فالبرتغالية والفرنسية، ولا تأتي الإنجليزية إلا في ذيل اللائحة. لا تقارير وبيانات عن الهوى العربي، سوى أن منطقة الخليج تتقدم. والسعوديون عنوا باكراً جداً بالبودكاست، وكما في غير بلد لم تزهر الظاهرة إلا في السنوات الأخيرة.
الإذاعات الفرنسية المعروفة، باتت والحالة هذه، تحوّل برامجها إلى بودكاست لإعادة سماعها، وتجعلها متاحة عند الرغبة، متماشية مع ما يبحث عنه إنسان اليوم، الذي تتنازعه المغريات، ويتنافس على حواسه المستثمرون. المتمسكون بتلفازهم التقليدي كثر، ومثلهم المواظبون على الاستماع إلى الراديو في تنقلاتهم في السيارة، ويبقى رواد النقل العام الذين يقضون ساعات بين القطارات والباصات أو سيراً على الأقدام هم من يجدون في البودكاست سلوتهم، ومصدر فائدتهم. بحسب التقديرات، هذا لن يدوم، بعد أن يختبر الناس، متعة اختيار برنامجهم المفضل، ومتحدثهم الأثير، بدلاً من أن يسلموا قيادهم لإذاعات تختار لهم المواعيد وتفرض عليهم البرامج.
وفي محاولة من «سبوتيفاي» لانتزاع مكانة «أوديبل» التابعة لـ«أمازون» في مجال الكتب الصوتية، لجأت لتسجيل مؤلفات إنجليزية كلاسيكية بأصوات نجوم. وقبلها قدمت المنصة «هاري بوتر» بصوت عدد من المشاهير، بينهم الممثل دانيال راد كليف، والمعركة لا تزال في بداياتها.
قد تظن أن التسجيلات الصوتية أسهل إنتاجاً من المصورة، لكن الأمر أعقد من ذلك، بسبب التطوير المستميت في تكنولوجيات الصوت، والعمل المضني من أجل التوصل إلى بودكاستات تجعلك لا تشعر بفارق بين الواقع والمسجل، مع الاستعانة بالمؤثرات، والمزج والتركيب.
ومن أشهر من انضموا إلى المدونات الصوتية الأمير هاري وزوجته ميغان، بمدونتهما «أرتشويل أوديو» التي أثارت اهتماماً، لكن المهم هو ما قاله دوق ودوقة ساسكس عن تجربتهما، وسبب قبولهما خوضها لأن المدونات الصوتية، «تذكّرنا جميعاً بأن نكرّس وقتاً للإصغاء الفعلي والتواصل من دون التهاء... فعندما يستمع واحدنا للآخر، ونعرف قصص بعضنا بعضاً، فإن ذلك يساعدنا على فهم مدى الترابط بيننا». الصفقة التي أبرماها تجارية قبل أي شيء آخر، إلا أن ما قالاه يبقى صحيحاً. فالأولوية الآن بالنسبة لإنسان تتجاذبه الإغراءات، هي لحظات تركيز صافٍ، بعيداً عن التشتت الذهني. لهذا يتحدث المهتمون بالبودكاست، عن جمهور يحتاج إلى مادة أكثر عمقاً؛ لأن كل مستمع قادر على الانصراف إلى ما يعنيه بشكل شخصي. ومع حيوية شركات الإنتاج، وإمكانية وضع البودكاست على أكثر من منصة رئيسية في وقت واحد، وبسبب المنافسة الشديدة بين المعروض، أصبح التفنن على أشده، والأبحاث جارية لتجويد الصوت بتقنية ثلاثية الأبعاد، تجعل المستمع يشعر وكأنه موجود فعلاً في المكان الذي يجري فيه الحدث. فبعد المليار دولار التي حصدتها البودكاستات السنة الفائتة، كل يفرك يديه طمعاً، ويفتح عينيه ولعاً بالآتي.
قيل طويلاً، إن الراديو هو إحدى الوسائل الفعالة لنشر الديمقراطية، وإيصال الرأي بسهولة وسرعة. وهذه السنة تركز «يونيسكو» في احتفاليتها بالإذاعات، على التنوع والتعددية، وأيضاً على التجدد والتشبيك. وثمة من يعتقد أن الإذاعات ستكون إلى زوال أمام البودكاست، خاصة بسبب الأموال السخية التي تصرف عليه، مقارنة بالشحّ القاتل الذي تعاني منه الإذاعات، وكله ممكن.
ما هو واضح أن التحولات أسرع من الأحلام المجنحة، والأرقام تكذّب التوقعات في أوقات كثيرة. الحدود سقطت بين المرئي والمسموع والمكتوب. الأوراق تختلط وتمتزج بانتظار إعادة فرز لأشكال جديدة، سيكون الصوت أحد المتربعين على عرشها. وبذلك خابت تكهنات كبار الكتّاب الذين توجسوا شراً من المرئيات وخداعها وقدرتها على خطف الوهج كله، بحيث سال حبرهم سخياً حول خطر الصورة، ولم يعن غير قلة من علماء اللغة، بفتنة الصوت وإمكاناته اللامتناهية.