جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بريطانيا: بعد «بريكست» محنة الانفصال

حين تأكدت زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى إدنبره، عاصمة اسكوتلندا، في آخر الأسبوع الماضي، أدلت الوزيرة الأولى بالحكومة المحلية، وزعيمة حزب اسكوتلندا القومي نيكولا ستورجن، بتصريح قالت فيه: «على رئيس الوزراء أن يكون قدوة، إذ ما الداعي لسفر ليس ضرورياً».
الزيارة المعنية جاءت في إطار محاولة الحكومة في لندن السعي لوقف زحف المد الانفصالي في اسكوتلندا، بوضع العراقيل في طريقه، عقب تصاعد ملحوظ في نسبة المؤيدين للاستقلال، حسبما أوضحت تنبؤات استبيانات الرأي العام.
ما اعتبرته السيدة ستورجن سفراً ليس ضرورياً، يعد تصريحاً بحدين. في الحد الظاهر منه أرادت الإشارة إلى قواعد السفر المفروضة بين إنجلترا واسكوتلندا بسبب الوباء، التي تحتم عدم السفر بينهما إلا لضرورة. أما الحد الخفي فهو سياسي، ومفاده أنه لا ضرورة لحضوره لأن أمر البت في الانفصال انتهى وانقضى. ومن جهته، فإن السيد جونسون حريص على السفر إلى اسكوتلندا باعتباره رئيساً للوزراء. وضرورة السفر استدعاها أمران؛ عام وخاص. العام يجسده خوف من تمكن القوميين الاسكوتلنديين من تهديد وجود الاتحاد البريطاني بالانفصال. والخاص يجسده خوفه من ارتباط الانفصال في حالة تحققه باسمه شخصياً، وبدخوله التاريخ ليس بصفته رئيس الوزراء الذي حقق استعادة السيادة البريطانية من بروكسل، بل بكونه رئيس الوزراء الذي أضاع الاتحاد البريطاني.
الخوف من مداهمة خطر يتوقعه المرء قادماً أكثر رعباً من مواجهته. والسيد جونسون يدرك أن ما بقي مخفياً في جرابه من حيلٍ وسُبل نجاة، قد أتت عليها، كما استنزفته، معاناة عام من حرب ضد عدو غير مرئي، يسمى فيروس «كوفيد - 19». وها هو، وقبل أن يلتقط أنفاسه من تلك الحرب، يجد نفسه في مواجهة عدو مرئي هذه المرة، يعرفه جيداً، لكن ليس بمقدوره إيقافه عن انتزاع اسكوتلندا، بعد أكثر من ثلاثة قرون، من جسد الكيان البريطاني التاريخي، مهما وضع أمامه من عراقيل سياسية وقانونية ودستورية. ربما لأنه يدرك جيداً، من خلال تجربته الشخصية في التعامل مع «بريكست»، أن لا شيء بمستطاعه الوقوف أمام زحف حركة استقلالية.
الوسائل المتوفرة بيد القوميين الاسكوتلنديين، لتحقيق الهدف المأمول، استقلال اسكوتلندا، معروفة سلفاً، وبمقدورها حسم معركة الانفصال. وأولها وأهمها حصول حزب السيدة ستورجن على أغلبية مقاعد البرلمان الاسكوتلندي، في انتخابات شهر مايو (أيار) المقبل. وهو أمر شبه مؤكد، إن صدقت تنبؤات استبيانات الرأي العام. وفي حالة حدوث ذلك، فإن السيدة ستورجن تعتزم عقد استفتاء آخر حول استقلال اسكوتلندا، من دون موافقة الحكومة البريطانية، على غرار ما قامت به الحركة الانفصالية بإقليم كاتالونيا في إسبانيا. وليس أمام حكومة لندن من حل سوى اللجوء إلى المحاكم، لأن الحلول الأخرى المقترحة، من قبل أعضائها متباينة، ويستحيل مواءمتها ووضعها في خطة حرب استراتيجية. من هذه الخلفية، جاءت رحلة السيد جونسون إلى إدنبره، على أمل دق ناقوس الخطر لإيقاظ أنصار الاتحاد، وبتأكيده على الفوائد التي ستحظى بها اسكوتلندا من بقائها في الاتحاد، والتخويف مما سيلحقها من أضرار في حالة انفصالها. ومطالبتهم برص الصفوف لوقف الخطر الانفصالي، في الانتخابات القادمة. السيد جونسون يعلم مسبقاً أن الأصوات الاتحادية، التي توحدت في معركة الاستفتاء الأولى عام 2014 وربحتها، سوف تدخل الانتخابات النيابية المحلية في شهر مايو منقسمة وموزعة بين ثلاثة أحزاب هي المحافظون والعمال والأحرار الديمقراطيون. وتوقُع ما ستكون عليه النتيجة النهائية لا يحتاج لكثير تخمين. ولدى نهاية الانتخابات، لن يكون بمقدور الاتحاديين في البرلمان الاسكوتلندي الجديد وقف أكثرية قومية، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، وعلى عكس أنصار الانفصال، يدرك السيد جونسون أن غالبية أنصار الاتحاد في اسكوتلندا من كبار السن، وأن نسبة منهم قد وافاهم الأجل، خصوصاً خلال أزمة الوباء الفيروسي. أضف إلى ذلك، أن الارتباك الذي وسم تعامله شخصياً مع الوباء مقارنة بتعامل السيدة ستورجن معه، تسبب في تدني شعبيته، وارتفاع شعبيتها.. فما العمل؟
الإجابة عن السؤال أعلاه، ما زالت محط شد وجذب، بين الحمائم والصقور، في الحكومة وفي أروقة حزب المحافظين الحاكم. الحمائم يتبنون تكتيكاً قائماً على تفادي المواجهة مع أنصار الحزب القومي الاسكوتلندي، بالالتفاف عليهم، والتوجه مباشرة للتواصل مع الشعب الاسكوتلندي في مختلف مناطق تجمعاته، والتأكيد بقوة على المكاسب التي ستجنيها اسكوتلندا من استمرار وجودها داخل الاتحاد. ويراهنون على أن مرور الوقت، مضافاً إليه ما يمر به الحزب القومي الاسكوتلندي من أزمة بين قيادته السابقة والحالية، قد يكون عاملاً مساعداً يساهم في إطفاء زخم تأييده شعبياً. والبعض منهم يدعو إلى اتخاذ قرارات تؤدي إلى إنقاص صلاحيات الحكم المحلي، وعلى نحو يسمح للحكومة المركزية بتقديم أموال وخدمات مباشرة إلى اسكوتلندا، أو منح الحكومة الاسكوتلندية المزيد من الصلاحيات. على الوجه الآخر من العملة يقف الصقور منددين بالانفصال، وملوحين بالمواجهة، في حالة رفض حزب السيدة ستورجن الانصياع للقانون. السؤال عما بإمكانهم واقعياً فعله لوقف الانفصاليين ما زال يبحث عن إجابة.