كان المشهد حزينا، والموقف مهيبا، الحزن بوفاة الملك عبد الله، رحمه الله، والهيبة في بيعة الملك سلمان، وفقه الله، وبينما كانت الآلام تبرِّح بجسد المملكة في وداع قائدها، كانت العزائم تنهض بهذا الجسد في بيعة قائدها الجديد.
ولسان حال السعوديين كلهم لم يمت عبد الله وسلمان موجود، فميزة هذه المملكة التي تفردت في الوجود، وتعززت في الحضور، هي أن قائدها وعلى امتداد قرونها الثلاثة، منذ أن نصر الإمام محمد بن سعود دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله، ميزتها هو أن قادتها امتداد طبيعي بعضهم لبعض، وذلك ما صنع سياسة مستقرة وأفقا واضحا.
رحل عبد الله ولم ترحل سجاياه الفاضلة، فسيبقى ذكره المجيد بعدله ورأفته وحكمته، وأتى سلمان ومعه ذكره الحسن والفأل المبارك. في لحظات الوداع هذه وداع القائد الراحل، تمتزج بلحظات استقبال القائد القادم ثم عبر وعبارات، ربما غالبيتها عبرات، يحدوها الحنين، ويسوقها الأمل، محاولين من خلالها الوعي بالذات «الوعي التاريخي والحضاري» لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية.
هذا الوعي بالذات ينبغي أن يُدرَّس للأجيال تلو الأجيال لا كمواد جافة، ومعلومات صلبة، ولكن كتاريخ «تاريخ يؤرخ، وتاريخ يصنع»، تمتزج فيه الحقائق بالوقائع، ويتوحد فيه الماضي بالحاضر والمستقبل، وآفة الإنسان حين يعيش الزمن ماضيا وحاضرا ومستقبلا بعضه منفصلا عن بعض، ونجاحه وانتعاشه إذا عاش الزمن كتلة واحدة بماضيه وحاضره ومستقبله، بعضه يؤثر في بعض، ونسيجه يصنع من الكل.
حين نقول لم يمت عبد الله وسلمان موجود، فذلك عنوان عريض وجهه الآخر المعبر عنه: «الشريعة وإكمال المسيرة» فالملك عبد الله، رحمه الله، الذي قال في كلمة بيعته بأن دستوره القرآن والسنة، قال كذلك الملك سلمان، حفظه الله، في كلمة البيعة، وهذا الذي قامت عليه المملكة منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز، رحمه الله، بل منذ تاريخها الأول حين نصر محمدٌ محمدًا.
إن «الشريعة وإكمال المسيرة» هي مشروع المملكة الحضاري الذي يتجدد مع كل ملك يتولى هذه البلاد، فمن الشريعة تستمد المشروعية للإمامة والجماعة في المملكة يعنى في النظام السياسي، ومن الشريعة وإكمال المسيرة نصنع تجربتنا الإنسانية في الحضارة المعاصرة بما يقدم برهنا واقعيا على أصالة المملكة ومعاصرتها، هذه الأصالة والمعاصرة التي عجز العالم الإسلامي حتى الآن في تركيب مفرداتها.
إن المملكة العربية السعودية أنموذج يحتذى، فهي لم تنشد الاستقرار فقط الذي يطمع فيه العالم الإسلامي في كثير من مناطقه، بل كانت وهي تؤسس للاستقرار تصنع الازدهار، وهذا ما يفسر النهضة الحضارية التي شهدتها وتشهدها المملكة في مناطقها المختلفة وميادينها المتنوعة.
ومن المسطور الذي ربما لم يكتب: هو أن الأشياء تعرف بآثارها، فهذه اللحمة الوطنية التي أدهشت العالم في وداع قائد واستقبال قائد، هي آثار لقيم عليا تحرص عليها المملكة منذ تأسيسها، ويمكن لنا أن نجمل هذه القيم في ثلاث كلمات، وهي «العدل، والرحمة، والحكمة» فالعدل بما يعنيه من الإنصاف بين الناس، والرحمة بما تعنيه من وشائج وعلاقات تدعم ترابط المجتمع، والحكمة بما تقتضيه من أن تصرّف الإمام على رعيته منوط بالمصلحة.
وهذه القيم الثلاث أساس المجتمعات الناهضة والمتماسكة وهي من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية الغراء.
ويبقى أن أذكر أن الملك سلمان، حفظه الله، ليس له فقط الخبرة السياسية والدراية الإدارية وحسب، بل يتميز كذلك بمعرفته للناس في أنسابهم وقبائلهم وتواريخهم، وهذه ركيزة أساس للحاكم تُكمِّل شخصيته، وتصنع مزيته، بما يتيح له خدمة شعبه ورعيته، كما صنع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حيث أوصى من سيحكم بعده بأجناس الرعية، فقال: «أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى، وأوصيه بالمهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم: أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان قبلهم: أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام، وغيظ العدو، وجباة الأموال، لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام: أن يؤخذ منهم من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله ورسوله أن يوفي لهم بذمتهم، ويقاتل من وراءهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم».
قال ابن تيمية: فقد وصى الخليفة من بعده بجميع أجناس الرعية السابقين الأولين من المهاجرين الأنصار، وأوصاه بسكان الأمصار من المسلمين وأوصاه بأهل البوادي وبأهل الذمة.
فرحم الله الملك عبد الله بن عبد العزيز، وأجزل له مثوبته على ما قدم للإسلام والمسلمين، ونسأله التوفيق والإعانة والتأييد لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، كما ندعوا بالتوفيق والإعانة لولي العهد الأمير مقرن بن عبد العزيز ولولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز.
* الأمين العام لهيئة كبار العلماء
7:30 دقيقه
TT
ما لم تقله السطور.. في وداع الملك عبد الله وبيعة الملك سلمان
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة