منذ أن دفع النازيون بأعظم العقول في أوروبا إلى المنفى، ازدهرت المعرفة الأميركية من خلال جذب المواهب من الخارج. وبعد الحرب العالمية الثانية أدَّى ازدهار البلاد وانفتاحها على العلماء المهاجرين إلى تحويل «هجرة العقول» إلى ميزة وطنية ضخمة. وأدى اختلاط المواهب العالمية مع المختبرات الأميركية إلى جعل المختبرات الأميركية المصدر الرائد للاكتشافات العلمية في العالم، وهي حالة تعززت فقط مع انفتاح الصين على الغرب.
لقد بات هذا الوضع مهدداً من قبل الطموحات الصينية، ومن رد فعل حكومة الولايات المتحدة الهزيل لها. ففي انعكاس للهويات الوطنية، تتصرف الصين كصاحب عمل رأسمالي متحمس، وتجتذب العلماء المولودين في الصين من خلال أفضل المختبرات الجديدة والتمويل السخي. وفي غضون ذلك، تقوم الولايات المتحدة بدور سلطوي مستخدمة التهديد بملاحقات جنائية بارزة لبث الخوف في المجتمع العلمي.
على سبيل المثال، هناك حالة جانج تشين، المواطن الأميركي المتجنس الذي يشغل مركزاً مرموقاً في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، وهو خبير بارز في تكنولوجيا النانو. ففي الأيام الأخيرة من إدارة الرئيس دونالد ترمب، اعتقل تشين ووجهت إليه تهمة الاحتيال الإلكتروني، وعدم تقديم تقرير حساب مصرفي أجنبي والإدلاء ببيان كاذب في إقرار ضريبي، وكلها محاولات مزعومة لإخفاء العلاقات مع الحكومة الصينية بتمويل من وزارة الطاقة الأميركية، ودفع تشين بأنه غير مذنب.
وفي مؤتمر صحافي في 14 يناير (كانون الثاني)، قال رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي في بوسطن، جوزيف بونافولونتا، قد «توصلت تحقيقاتنا إلى أن تشين كان يعمل مع الحكومة الشيوعية الصينية بصفات مختلفة تعود إلى عام 2012، وذلك على نفقة بلدنا. والضحايا الحقيقيون في هذه الحالة هم أنتم - دافعو الضرائب – عن عمد، واستغل 19 مليون دولار من منحنا الفيدرالية لتعزيز أبحاث الصين في مجال تكنولوجيا النانو».
كان البيان مضللاً للغاية. فبالنسبة للمبتدئين، لم يذهب مبلغ 19 مليون دولار إلى تشين، بل إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وبالمثل، خلط مكتب التحقيقات الفيدرالي بين الأموال الشخصية والتمويل الصيني للتعاون بين معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة صينية. فكل الأموال كانت مخصصة للبحوث الأساسية المنشورة علانية في المجلات العلمية، وليس لأي شيء متعلق بالدفاع أو الصمت. وتشمل الأنشطة التي تم تكليف تشين بعدم الكشف عنها أشياء، مثل توصية الطلاب للحصول على زمالات صينية، ومراجعة مقترحات المنح للنسخة الصينية من مؤسسة العلوم الوطنية.
يعد تجريم مثل هذه الأنشطة أمراً شديد الخطورة لدرجة أن 170 من أعضاء هيئة التدريس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بمن فيهم الحائزون جائزة نوبل، وقّعوا خطاباً يدعم تشين، جاء نصه كما يلي «نحن قلقون من أن الشكوى ضد جانج تشوه سمعة ما يمكن اعتباره أنشطة أكاديمية وبحثية عادية، بما في ذلك تعزيز مهمة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا العالمية. نحن جميعاً جانج تشن».
في مقابلة صحافية، قال عالم الأعصاب روبرت ديسيمون، مدير معهد ماكغفرن لأبحاث الدماغ «لقد اعترانا قلق بالغ من أن ما ورد في الشكوى، كان نشاطاً أكاديمياً عادياً نشارك فيه جميعاً طوال الوقت. فكلما كنت أكبر مرتبة وعلماً، طُلب منك تقديم المشورة، ومراجعة المنح الدراسية وأن تصبح مستشاراً لجميع أنواع البرامج، وما إلى ذلك. هكذا تسير حياة العلماء. وعادة لا يفكر المرء أو يقلق من أن مكتب التحقيقات الفيدرالي سيعتقلك إذا شاركت في أنشطة أكاديمية عادية».
ربما يكون تشين قد حذف بعض أنشطته من النماذج، هذا لا يعني أنه يخفي سراً.
يجادل محامي الحريات المدنية والدفاع هارفي سيلفرغلات، بأن العديد من الأميركيين الذين يعتقدون أنهم يحترمون القانون تماماً يرتكبون مثل هذه الجرائم كل يوم، وسيكونون عرضة للخطر إذا قرر المدعون الفيدراليون ملاحقتهم.
وأوضح سيلفرغلات أن «أي شخص يتقدم للحصول على منح فيدرالية أو يعمل في برنامج يحصل على منح فيدرالية عليه أن يملأ عدداً هائلاً من الأوراق. من السهل جداً عدم الكشف عن شيء يمكن أن يفسره الاحتياطي الفيدرالي على أنه حذف متعمد. إذا أرادت السلطات الفيدرالية استهداف العلماء الصينيين الأميركيين على أمل إعاقة طموحات الصين، فلديهم الكثير من الأعمال الورقية التي يتعين عليهم التعامل معها.
على الرغم من أن حالة تشين الفردية قد تكون مخيفة، فإن التداعيات الأوسع على العلوم الأميركية مقلقة بالقدر نفسه. فمثل هذه الملاحقات القضائية ترسل برسالة مفادها أنه لا ينبغي للباحثين المولودين في الصين البقاء في الولايات المتحدة، أو حتى القدوم إلى هنا من الأساس.
وفي هذا الإطار، قال يوئيل فينك، أستاذ علوم المواد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الذي كتب الرسالة «إنها مسألة أمن قومي. فالقدرة على اكتساب المواهب العالمية وجذب المواهب العالمية إلى البلاد مسألة تتعلق بالأمن القومي. أحب أن أفكر في الأمر على أنه أشبه بتخيل الدوري الأميركي للمحترفين من دون فريق جيانيس. تخيل الدوري الأميركي للمحترفين من دون (كريستابس). تخيل الدوري الأميركي للمحترفين من دون كل اللاعبين الدوليين. هل هناك عقل سليم يرفض المواهب؟» إنَّ دفع اللاعبين النجوم إلى أحضان منافسيك ليس بالاستراتيجية الرابحة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»
9:32 دقيقه
TT
تجريم العلم
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
