ديفيد فيكلينغ
TT

عيوننا في الفضاء والخام تحت أقدامنا

لم تكن الشخصيات والأعمال الدرامية المختلفة التي ارتبطت بالفضاء، من إيلين ريبلي في «إيلين» وديف ليستر في «ريد دوورف» وصولاً إلى سام بيل في «مون» وناعومي ناغاتا في «إكسبانس»، ليصبح لها معنى يُذكر، لولا مجموعة المهندسين الطموحين العاكفين على عمليات معالجة للمعادن.
ويعكف هؤلاء المهندسون على إنجاز رؤية طموحة ومغرية للغاية لدرجة دفعت أصحاب المال في عالم الواقع لأن يستثمروا في تحويلها إلى حقيقة. جدير بالذكر في هذا الصدد، أن لاري بيغ، مالك شركة «ألفابيت إنك»، وإريك شميدت ومخرج هوليوود الشهير جيمس كاميرون (الذي تولى إخراج سلسلة أفلام «إيلينز» عن الكائنات الفضائية)، قد وجهوا جميعاً استثمارات لشركة «بلانيتاري ريسورسيز إنك». كانت هذه الشركة قد جمعت تمويلاً من أجل مهمتها الرامية لتنفيذ أعمال تعدين بحثاً عن معادن رفيعة القيمة من كويكبات وتعدينها وتحويلها إلى رغاوٍ معدنية يمكن إعادتها إلى الأرض.
بالتأكيد من الرائع أن هناك من يضعون نصب أعينهم أهدافاً طموحة بهذا القدر. ومع ذلك، فإن أولئك الذين رفضوا تمويل مثل هذه الخطط الطموحة لصناعة التعدين الفضائي الناشئة كانوا على صواب بخصوص عدد من العناصر الأساسية. الواضح أن صناعة التعدين الفضائي لن تنهض على قدميها على مدار المستقبل المنظور، وللتعرف على السبب ليس عليك سوى إمعان النظر في تاريخ الحضارات.
في الواقع هناك عامل يستبعد إمكانية تنفيذ غالبية خطط التعدين في الفضاء منذ اللحظة الأولى: الجاذبية. من ناحية، تعمل هذه الجاذبية كعامل ضمان بأن أفضل الموارد المعدنية على مستوى النظام الشمسي موجودة بالفعل تحت أقدامنا. جدير بالذكر، أن الأرض تعد أكبر كوكب صخري يدور حول الشمس. وعليه، فإنه يمتاز بقدر بالغ من الثراء في المعادن.
إلى جانب ذلك، تخلق الجاذبية مشكلة فنية، ذلك أن الفرار من قبضة مجال الجاذبية الخاص بالأرض يجعل مسألة نقل كميات المواد اللازمة لتنفيذ عملية التعدين باهظة التكلفة. جدير بالذكر، أنه على متن «فالكون هيفي»، الصاروخ الضخم الذي تتولى شركة «إكس بيس» المملوكة لإيلون ماسك تطويره، تتسم تكلفة نقل حمولة إلى مدار المريخ بسعر منخفض للغاية يصل إلى 5.357 دولار للكيلوغرام الواحد، ما يشكل انخفاضاً هائلاً في التكاليف العادية للإطلاق.
ومع هذا، فإنه تبعاً لهذه الأسعار، فإن نقل أداة تعدين واحدة تبلغ زنتها نصف طن إلى حزام الكويكبات تصل تكلفته إلى ما يعادل إجمالي موازنة التنقيب لدى شركة تعدين صغيرة.
وتمثل الطاقة مشكلة أخرى. تجدر الإشارة هنا إلى أن محطة الفضاء الدولية، التي تبلغ مساحتها 35.000 قدم مربعة من المصفوفات الشمسية، تولّد ما يصل إلى 120 كيلوواط من الكهرباء. وستحتاج آلة الحفر سالفة الذكر إلى محطة طاقة بالحجم ذاته، في الوقت الذي تعتمد غالبية الشركات على أكثر من أداة حفر في وقت واحد.
إلى جانب ذلك، فإن احتياجات الطاقة ترتفع بشدة بمجرد الانتقال من مرحلة الحفر بهدف التنقيب إلى مرحلة التعدين والمعالجة. كما أنه من شأن إعادة المواد إلى الأرض زيادة التكلفة.
جدير بالذكر هنا أن القمر الصناعي الياباني «هايابوسا2» قضى ست سنوات وتكلفت العملية 16.4 مليار ين (157 مليون دولار) من أجل استعادة غرام واحد من مادة الكويكب «ريوغو» وإعادته إلى الأرض في وقت سابق من الشهر.
والآن، ما الذي قد تريد التعدين عنه في الفضاء؟ المعروف أن الماء يعد عنصراً أساسياً في معظم عمليات التعدين على الأرض، كما أنه مادة خام محتملة لوقود الهيدروجين - الأكسجين الذي يمكن استخدامه في الفضاء.
وجاء اكتشاف جزيئات جليد على القمر في أكتوبر (تشرين الأول) بوصفه إنجازاً هائلاً. ومع ذلك، فإن تركيزاته التي تتراوح بين 100 و412 جزيئاً في المليون تعد منخفضة للغاية، وفقاً لمعايير كوكب الأرض. يُذكر أن النحاس الذي يكلف عادةً 4.500 دولار لكل طن متري لصقله، يبلغ متوسط درجة الخام فيه نحو 6.000 جزء في المليون.
أما السلع الواعدة فهي البلاتين والبلاديوم والذهب وحفنة من المعادن النادرة ذات الصلة. بسبب تقاربها مع الحديد، فإن هذه العناصر المسماة عناصر محبة للحديد غرقت في الغالب قرب اللب المعدني لكوكبنا في وقت مبكر من تكوينه، وتعد نادرة نسبياً في قشرة الأرض. وتشير تقديرات إلى أنها موجودة بوفرة في بعض الكويكبات، مثل «سايك 16» الموجود خارج مدار المريخ، بتركيزات أعلى بمرات عدة مما يمكن العثور عليه في المناجم الأرضية.
إذا كانت معادن مجموعة البلاتين هذه ستبرر التكاليف الفلكية الحرفية للتعدين في الفضاء، فإن هذا يستلزم وجود أسعار مرتفعة باستمرار على مدار عقد من الزمان، أو نحو ذلك كي تظهر حاجة إلى بدء مثل هذه العملية -وهذا النمط من الظروف لم يظهر قط من قبل في صناعة المعادن.
المعروف أنه عندما ترتفع أسعار سلعة أساسية بشكل مفرط، يُبدي الكيميائيون براعة غير عادية في إيجاد طرق لتجنب استخدامها، ويُحسن تجار الخردة معدلات إعادة التدوير الخاصة بهم، ويكتشف عمال المناجم رواسب جديدة لم تكن قابلة للاستغلال التجاري في ظل أسعار أقل، بل حتى المجرمون يدخلون في اللعبة. قد يبدو هذا تحليلاً مخيّباً للآمال لأولئك الذين يبحثون عن أعذار للبشرية لاستعمار الفضاء، ولكن في الحقيقة يجب أن يُنظر إليه على أنه تكريم لإبداعنا. فشل البشرية في استغلال احتياطيات خام خارج كوكب الأرض ليس علامة على افتقارنا للخيال، وإنما هو دليل علامة على العبقرية التكيفية التي أوصلتنا لما وصلنا إليه اليوم في المقام الأول.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»