سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

التحدي الأعظم لبايدن: الصين

بينما كانت أميركا غارقة في خلافاتها الانتخابية التي تجاوزت كل متوقع، ومشغولة بدفن ضحايا الوباء بالآلاف، والترويج للقاحاتها السحرية، نجحت الصين في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بإبرام أكبر اتفاق للتجارة الحرة في العالم، مع جيرانها الأقربين والأبعدين، شمل 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادي. ويضم الاتفاق 10 دول في جنوب شرقي آسيا إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا. والأهم أن الصين، وقد باتت مصنع العالم، ضمنت بهذه الاتفاقية التي تتيح التبادل التجاري السهل، تحت جناحيها، أكثر من ملياري نسمة، وثلث التجارة العالمية، وسددت ضربة للهند التي خرجت من المفاوضات. وما كان للرئيس الصيني شي جينبينغ أن ينجح في مبادرته التي استغرقت سنوات، ويضع أميركا خارجاً، لولا تخلي دونالد ترمب عن «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي» التي كانت تشمل غالبية هذه الدول عام 2018. ثم وجدت نفسها بسبب الحمائية الترمبية، من دون قائد.
الفترة الحرجة التي مرت بها أميركا، والعلاقات المتشنجة بين إدارة ترمب وأوروبا استفادت منها الصين أيضاً، وتوصلت قبل 3 أسابيع من تولي جو بايدن السلطة، إلى «اتفاق شامل بشأن الاستثمارات» بين الطرفين.
تغاضى الأوروبيون عن أعزّ مبادئهم، وهم يعرفون أن مطالباتهم الملحة بتحسين أوضاع الأقليات، وتعزيز حقوق الإنسان، والعمال، ستذهب هباء الريح. مكرهٌ الاتحاد لا بطل، الوقائع تفرض نفسها. فقد تحولت الصين بعد شهور قاسية من الجائحة إلى أكبر شريك تجاري للقارة العجوز، مع تعثر الحركة التجارية الأميركية.
وأفريقيا ليست بعيدة عن القبضة الصينية، فهي لا تزال المستثمر الأكبر، والمقرض الذي تدين له القارة السوداء بـ20 في المائة من ديونها. هذا عدا طريق الحرير الممتد، وسكك القطارات التي استثمرت فيها الصين مليارات الدولارات.
ماذا فعلت الجائحة بالعالم؟ حتماً استفادت الصين حتى الثمالة، من تكذيب الأخبار الآتية منها، واعتبارها مجرد بروباغندا، مع أنها ليست دائماً كذلك، ومن اعتبار نظامها الديكتاتوري ستاراً تخفي وراءه كوارثها، من عدد المصابين بـ«كورونا»، إلى مدى قدرتها على السيطرة على الوباء، ومرونتها في التغلب على الصعوبات، وإعادة تشغيل المصانع. لا تحب الشعوب الديمقراطية الصين. وتلك نقطة يبدو أن التنانين استفادوا منها بدل أن تكون عقبة في طريقهم. فكلما أساء العالم فهم الصين، وشكك فيها، سمح لها بالتحرك بحرية أكبر. لا أحد يريد أن يصدق أن عدد المصابين بالوباء هناك أصبح يعد بالعشرات وأحياناً بالمئات، فيما المرض يأكل الآلاف يومياً في دول أخرى. أغلقت الصين مطاراتها وأعادت العمل لمصانعها كخلايا نحل. صحيح أن ثمة قطاعات شلت وسرّحت موظفيها، مثل العاملين في صناعة الشنط والألعاب والأحذية والملابس، لكن مجالات أخرى، كالمعدات الطبية والتكنولوجية والأغذية، تشهد انفجاراً غير مسبوق، وكثافة في الطلب، وعجزاً عن التلبية، بسبب محدودية القدرة على الشحن والتخزين.
بين من يذعن ومن ينادي بالتمرد على الواقع الذي يفرض نفسه، تحت ضربات الجائحة، تمضي الصين غير آبهة بالنداءات التي تخرج من هنا وهناك. فقد نشرت جريدة «ليبراسيون» الفرنسية مقالة غاضبة للنائب الفرنسي في الاتحاد الأوروبي برنارد غيتا، يطالب فيها برفض الاتفاق المفروض على الاتحاد من الصين، ليس فقط لأن النظام ديكتاتوري، ولا يحترم حقوق الإنسان، بل لأن الاتفاق غير متوازن، ويخدم الصين أولاً، ويحول العالم القديم إلى جبهة مع الصين في مواجهة أميركا، بدل أن يتكتل العالم الغربي ضد دولة شيوعية. لكن لا شيء يشي إلى اليوم، في حال استمر الوضع الاقتصادي الغربي نزولاً، بأن هذه الاتفاقية لن تصادق عليها الدول الأعضاء. يعزز هذا الرأي، الدوار الألماني من الحرب التجارية بين الصين وأميركا. فألمانيا، ترتبط كل يوم أكثر بمصانع ومصالح إضافية مع الصين، ولا تريد أن ترى استثماراتها مهددة.
تتمدد الصين في كل الاتجاهات، يبدو أنها لم توفر المناطق القطبية المتجمدة، معرفة منها بأن تحولات المناخ، ستدفع باتجاه تلك البقاع، وهي سبقت وبدأت مشروعاتها. وإذا كانت الزراعة هي العماد الذي قامت عليه الثورة الماوية أساساً، ولم تكن طلائع الثورة الصناعية إلا تدعيماً آلياً لمئات ملايين المزارعين، فإن الطموح الصيني وصل إلى المريخ، وهو لن يكتفي بذلك.
تريد الصين أن تصبح «واحدة من أكثر الدول ابتكاراً» عام 2030 و«الدولة الأكثر إبداعاً» في عام 2049، عام احتفالها بالذكرى المئوية لوصول الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة. لكن بات معلوماً، أن المعلن هو دائماً في الصين أدنى من المتوقع، تفادياً لشماتة الشامتين.
صحيفة «لوموند» أمام هذا الزحف التجاري المتنامي، وصفت الصين بـ«بلدوزر الاقتصاد العالمي». وقررت طوال 5 أيام إطلاع قرائها على ما يحدث في تلك البلاد، من خلال تحقيقات ميدانية، وأرقام لا شك حولها. ورأت الصحيفة الفرنسية الرصينة، أن الصين تتقدم بينما يتأخر الآخرون. ومع نهاية عام كارثي للبشرية، خسر فيه الجميع، تمكنت الصين من تحقيق نمو بنسبة 2 في المائة. وإن استمر الوضع على ما هو عليه، ستكون أميركا خلال العام الحالي منشغلة بأسوأ أزمة صحية شهدتها منذ 100 سنة، فيما ستتمكن الصين من بلوغ نسبة نمو ستصل حسب التقديرات العالمية إلى 8 في المائة، وهو ما يؤهلها خلال 7 سنوات فقط لأن تتقدم على أميركا.
أخبار سيئة بالجملة، لعشاق الديمقراطية. لكن المواطن العادي، لا يأبه كثيراً، حين يصبح حلّ مشكلة البطالة أولوية، والانتصار على الجوع هو المعركة الأساس، والبقاء على قيد الحياة، التحدي اليومي الأول لمئات الملايين.