فاي فلام
TT

ما زلنا لا نعلم مصدر «كوفيد ـ 19»

يرغب الناس في معرفة من أين جاء فيروس «كورونا». لو أنَّ البشر أصيبوا به من الخفافيش، يبقى هنا تساؤلان: أين وكيف؟ هل فرَّ فيروس «كوفيد - 19» من أحد المعامل، مثلما لمَّحت العديد من المقالات؟ وفي الوقت الذي ترفض أعداد متزايدة من العلماء فكرة الإطلاق المتعمد للفيروس في إطار نظرية مؤامرة، فإنَّه ليس باستطاعتهم أن يرفضوا على نحو كامل إمكانية أن يكون الفيروس قد هرب من مكان ما عن طريق الخطأ.
ويمكن لتحقيقات دولية تسليط الضوء على الأمر، لكنَّها واجهت بداية صعبة ومتعثرة. من جهته، ظلَّ فريق التحقيق التابع لمنظمة الصحة العالمية معلقاً لشهور قبل أنْ يسمح له أخيراً بدخول الصين، هذا الأسبوع. كما أنَّ فريقاً آخر يتبع مؤسسة «لانسيت» لم يبدأ بعد عمله الميداني هناك. والمؤكد أنَّ سبر أغوار الأمر ليس حيوياً من أجل الحيلولة من دون وقوع أوبئة في المستقبل فحسب، وإنَّما أيضاً للإبقاء على حماس الأشخاص للمعاونة في التقليل من حجم التفشي.
من جانبه، قال رامسوس نيلسون، اختصاصي الوراثة بجامعة كاليفورنيا ببيركلي والذي عكف على محاولة حل لغز كيفية تطور فيروس «سارس - كوف - 2»: «أعتقد أننا جميعاً يراودنا الشعور بأن مزيداً من الجهد كان ينبغي بذله داخل الصين في محاولة تحديد جذور هذا الفيروس. وأعتقد أننا جميعاً نشعر أنَّ هذا الأمر سيفيد العلم».
وأضاف أنَّ إحدى المشكلات تكمن في انتشار نظريات المؤامرة التي تفيد بأن «فيروس - كوفيد - 19» جرى تخليقه داخل معمل، ثم جرى إطلاقه عن عمد. وقال: «أعتقد أنَّ هذا أضرَّ بالدعوات الرامية لإجراء تحقيق مناسب في الأمر». وفي الوقت الذي تعتبر مسألة التحقيق في منشأ الفيروس مهمة، فإنَّ نيلسون يرى أنه جرى خلطها بكثير من الأفكار الزائفة.
وأضاف أن الحكومة الصينية زادت هي الأخرى من العوائق. وقال: «بالتأكيد لم يكن هناك انفتاح وصراحة». كما أن حقيقة دخول الفريق التابع لمنظمة الصحة العالمية أخيراً للصين لا تعني أنه سيصل إلى كل ما يود الوصول إليه.
وقال نيلسون وعلماء آخرون التقيناهم إنه في الظروف المثالية، يجب أن يكون المحققون قادرين على جمع عينات بيئية من أجزاء مختلفة من الصين، بما في ذلك المناطق التي تسكنها الخفافيش المعروف أنها تحتوي على فيروسات «كورونا» مماثلة وراثياً. (جرى العثور في السابق على أقرب الفيروسات في الخفافيش التي تعيش على بعد مئات الأميال من ووهان).
ومن الممكن أن يحمل تعقب أصل الفيروس نفعاً كبيراً، رغم التأخر في الدخول للصين. وأشار نيلسون إلى أن التحورات في فيروسات «كورونا» تظهر بمعدل ثابت بما يكفي لأن تعمل كنوع من الساعة الجزيئية. وبالاعتماد على ذلك، نجح نيلسون في إظهار أن فيروس «سارس - كوف - 2» قد تحور عن فيروسات الخفافيش الأكثر ارتباطاً المعروفة منذ ما بين 37 و51 عاماً. والتي تحورت في اتجاهات مختلفة منذ ذلك الحين.
ويحتاج الباحثون أيضاً إلى الحصول على عينات طبية من المرضى. ويمكن أن تكشف عينات الدم المخزنة وعينات أخرى متى بدأ الفيروس ينتشر بين البشر. وأخيراً، حسبما ذكر نيلسون، فإن العلماء بحاجة لدخول معهد ووهان للفيروسات، الذي يضم أكبر مجموعة في العالم من فيروسات الخفافيش التاجية، لدراسة العينات ودفاتر المختبر والسجلات الأخرى. (رفض المسؤولون في المختبر بشكل قاطع فرضية «حادث المختبر»).
من جانبه، أشار ديفيد ساندرز، عالم الفيروسات بجامعة بوردو، إلى حوادث في وقعت في معامل سبق أن أطلقت فيروسات في الماضي. وأدَّت إحدى هذه الحوادث إلى تفشي الإنفلونزا عام 1977. وكان هذا النوع من الإنفلونزا مطابقاً وراثياً لسلالة من الخمسينات، وأضاف «يكاد يكون في حكم المؤكد أنها جاءت من المختبر» مشيراً إلى أن الأصل المحتمل كان مختبر سيبيريا يعرف باسم «فيكتور». كما تسرب فيروس «إيبولا» من المختبر نفسه عام 2004. وأصيبت إحدى العاملات به، ثم سمح لها بجمع أغراضها والعودة إلى المنزل، وماتت نهاية الأمر.
وأحد الألغاز التي لم يتم حلها بعد، هو كيف يجب أن يتكيف فيروس الخفافيش جيداً مع الانتقال بين البشر. وقال عالم الأحياء الدقيقة ستانلي بيرلمان من جامعة أيوا، الذي درس الفيروسات التاجية لسنوات وهو عضو في فريق التحقيق المعني بفيروس «سارس - كوف - 2» الذي نظمته «لانسيت»، إنَّ معظم فيروسات الخفافيش ليست مهيأة بشكل خاص للانتشار بين البشر. ويعتبر هذا أحد أسباب تلاشي مرضين سابقين من أمراض فيروس كورونا الوبائي «سارس» الذي تفشى عام 2003. وفيروس «ميرس» أو متلازمة الشرق الأوسط التنفسية.
ويتمثل أحد التفسيرات التي يفضلها بيرلمان في أن «كوفيد - 19» انتشر بين البشر قبل فترة طويلة من ملاحظته، وأصبح أكثر تكيفاً مع مهمة إصابة الجنس البشري. ونظراً لأن الفيروس غير ضار فيما يخص غالبية الشباب، فمن الممكن أن يكون مستوى منخفض من فيروس «سارس - كوف - 2» انتشر منذ شهور. وأشار إلى أنَّه من الممكن التوصل إلى معلومات من عينات الدم المخزنة والعينات الطبية الأخرى، والتي جرى استخدامها للإشارة إلى أنَّ الفيروس قد وصل بالفعل إلى أوروبا في أواخر عام 2019.
وأقر أنَّه في ظلّ الظروف المثالية، يجب أن يتمتع فريقه وفريق منظمة الصحة العالمية بإمكانية الوصول الكامل إلى العينات الطبية ومعهد ووهان للفيروسات. كما أقر أنه حتى الآن، لم تتمتع الصين بشفافية، لكنه يشير إلى أن الولايات المتحدة لعبت دوراً في توتر العلاقات، جزئياً، عن طريق إخراج العاملين الأميركيين في مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها من الصين بمجرد بدء الوباء.
جدير بالذكر أن معهد ووهان للفيروسات لا يضم فقط أكبر مجموعة في العالم من فيروسات الخفافيش التاجية، بل ويتولى العاملون في المعهد إجراء أبحاث تتضمن تغيير تلك الفيروسات، ربما لجعلها أكثر قابلية للانتقال إلى البشر، تبعاً لما أخبرني به عالم الأحياء ريتشارد إبرايت من جامعة روتجرز، معارض قديم لانتشار الأسلحة البيولوجية، عبر البريد الإلكتروني. ولا يتطلب بحث «اكتساب الوظيفة» هندسة وراثية، وإنما يمكن للعلماء استخدام أشكال التكاثر الانتقائي لجعل الفيروسات أكثر قابلية للانتقال في الأنواع المختلفة. ويفعلون ذلك عن طريق إصابة أو «تمرير» الفيروس عبر حيوانات مختلفة أو مزارع خلايا بشرية، واختيار التحورات التي من المرجح أن تصيبنا بالعدوى. وأضاف أن أبحاث اكتساب الوظيفة ليس لها ما يبررها، لكن آخرين يقولون إنها ذات قيمة لأبحاث اللقاحات بالإضافة إلى معرفة المزيد حول كيفية وصول الفيروسات الجديدة إلى البشر.
وذكر نيلسن، عالم الوراثة من بيركلي، أن هناك أيضاً احتمالَ أن يكون لدينا هذا الوباء بسبب سوء الحظ فحسب، بمعنى أن فيروس الخفافيش لديه سمات تجعله سيئاً للغاية بالنسبة للناس. وقال: «هناك الملايين من الفيروسات، والمرة التي يصيبنا فيها جائحة مثل هذا سيكون الفيروس الوحيد الذي تصادف أن يكون لديه الطفرات الصحيحة ليكون خبيثاً بدرجة كافية».
وقال: «لقد أثر هذا الفيروس علينا جميعاً كثيراً. ولذا فنحن جميعاً نريد أن نعرف قدر الإمكان جذوره، أليس كذلك؟ أيضاً، نحتاج ذلك للتأكد من تقليل مخاطر حدوث شيء كهذا مرة أخرى».
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»