فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الظاهرة الإرهابية في تحليلاتٍ فلسفية

ربما خلق الاهتمام الفلسفي لتحليل ظاهرة الإرهاب، بغية فهمها، ومجادلة الخطاب الذي ترتكز عليه، ومساءلة الأفكار التي تنطلق منها حالة من سوء الفهم مع المفكرين المنخرطين بالشأن العام لتحليلات الفلاسفة للظاهرة، لحد اعتبارهم متفهمين، بل ومبررين لها.
صحيح أن عدداً من الفلاسفة في العالم لديهم نزعات يسارية تجعل السلطة مأرز الكوارث، وتحمّل ضغط الإمبريالية، وأثر النظام العالمي، كل النكبات، ولكن ذلك لا يعني إهمال التحليل والبحث الفلسفي لظاهرة الإرهاب، باعتباره نتيجة خطاب محدد وبمعزل عن الحمولة السياسية التي تمثلها شعاراتهم.
لقد تطور التحليل الفلسفي للإرهاب بعد بروز تنظيم «داعش» عما كان عليه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، إذ تتم مساءلة الظاهرة باعتبار من يمثلها فرداً له امتداده، وبالتالي كيف حدث ذلك العطب؟
لذلك أصدر مركز «المسبار للدراسات والبحوث» كتاباً مهماً بعنوان: «الإرهاب في النقاش الفلسفي: الفهم والثغرات» تبدو المقدمة حذرة ومميزة بين التحليل السياسي للإرهاب من قبل الفلاسفة، وبين التحليل الفلسفي للإرهاب باعتباره ظاهرة، لذلك ورد في المقدمة: «توحدت المواقف الفلسفية الرافضة للعنف، لكنها في سياق بحثها عن فهم الإرهاب، وقعت فيما يمكن وصفه - بقدرٍ من التحامل - قد يرقى إلى التبرير له، من دون قصد أو وعي».
الأستاذ بابلو آرغاراتي انتهى بحثه للتأكيد على رأي إيمانويل لفيناس، وإصراره على «أصالة الصلة بين تكوين ذات الفرد من جهة، والآخر من الجهة الأخرى». بينما البرفيسور رضوان السيد درس هابرماس وتحليله للإرهاب مقارناً به مع المنظّرة السياسية الألمانية حنة آرندت: «فعلى غرارها ينظر إلى الالتزام السياسي على أنه مرتبطٌ بالتزامه الفلسفي. فكلاهما يعتنق الفلسفة، ويتصدى لمشكلاتها ضمن سياق جراح تاريخ أوروبا في القرن العشرين، أي النزعة الاستعمارية، والنظم التوتاليتارية والهولوكوست. وهكذا فإن مشاركته في موضوع 11 سبتمبر (أيلول) 2001، والإرهاب العالمي، تندرج ضمن هذا المنحى نفسه. فهابرماس يستعرض باستمرار وقع الصدمة التي عاشها هو وأصدقاؤه عندما علموا من خلال محاكمات نورمبرغ، ومن خلال سلسلة الأفلام الوثائقية، بالأفعال الشنيعة للنازية. ولذلك شغله طوال حياته موضوع التجديد الروحي والأخلاقي».
بينما الأستاذ عفيف عثمان، انطلق بحثه من وضع الفلسفة في حالة نفي أصيل للعنف. يقول: «إن بداية الفلسفة وهدفها الأخير هو القضاء على العنف، والفيلسوف الأصيل هو من يبحث ويجد قاعدة للتواصل بين الأفراد، فهو حتى عندما يقوم بصوغ مذهب، فإن ذلك المذهب يكون مفيداً للحوار. كما يمكن أن يشكل نقطة تلاق بين أفراد مشتتين. إن الفيلسوف وهو يتكلم لغة تخصه إنما يبحث عن لغة كونية، وهو بذلك يعد الوسيط الأساسي بين البشر».
وينطلق الأستاذ عمر البشير الترابي من البحث في مشكلات التظليل وتقنيات التفكير بظاهرة الإرهاب، ويضرب مثلاً بـ«نظرية وقف الإرهاب في ستينات القرن المنصرم، على فرضية أن الإرهاب يتغذى على الاهتمام به، فيكون تجاهله هو المسلك الأفضل لوقفه؛ وربما يُفسر ذلك أن غالبية العمليات الإرهابية حتى التسعينات، كان مسار الإعلان عنها، محدداً بأن مرتكبها مختلٌ عقلي. يفيد ذلك في مجتمع ترسخت فيه فكرة الدولة، بحيث يتمترس الإرهاب فيه حول قضية مطلبية، أو عرقية، أو سياسية، ولكنه حينما يرتبط بمجال جغرافي فيه أمراض تاريخية وحداثوية؛ وعداء للدولة ومؤسساتها وللحدود الوطنية والسيادية؛ فإن الأمر معقد ويحتاج إلى تحليل متعدد الجوانب يأخذ بالاعتبار هذه العوامل وغيرها».
بينما نقرأ في بحث الأكاديمية الفرنسية كريستين بوناردي، الذي خصصته لتحليل جاك دريدا للإرهاب، قولها: «لم يتناول دريدا المسائل الأخلاقية بشكل مباشر، إلا أنها بقيت دائماً في خلفية فكره، بتفكيكه أسسها وتمظهراتها التقليدية. من خلال القواعد والمعايير والقيم الأخلاقية، يكون قد أبرز حدودها و(معضلاتها) انطلاقاً من مسائل مثل الغفران، الهبة، الضيافة، الشهادة أو السر... التي نجدها في مواقفه بإزاء الإرهاب. ففي ادعائها الكونية، مثلت الإنسية الغربية محاولة التقليل من قيمة غيرية كل ما ليس غربياً، مُفعِلة هكذا عنفاً رئيسياً متمحوراً حول الإثنية: فالمسألة الأولية عن وحدة الإنساني وتعريفه نفسه - هم ونحن، الذات عينها والآخر - ستُفضي طبيعياً إلى الإيتيقا. وحول مسألة المطالبة بإيتيقا لها طابع كوني ويمكن أن تكون كذلك (وليست كوزموبوليتية فحسب) يلتقي دريدا مع إيمانويل ليفيناس لأن المسألة الأنثروبولوجية (كيف يمكن أن نقول شيئاً بيننا؟) متصلة مباشرة بالمسألة الإيتيقية (ماذا عنا نحن البقية (الآخرين)، من الناس). فالضيافة غير المشروطة، من تبعات الانفتاح المطلق على الغيرية عند ليفيناس، هي عند دريدا شكل من العدالة المفتوحة، تطلُب للعدالة من دون ممارسة سلطة».
الأكاديمية شارلي غاليبرت درست بودريار ولخصت موقفه بأن: «الإرهاب ليس قضية مواجهة - حتى ولو كانت حضارية - ولكن الإبانة عن عولمة ظافرة في خصام مع نفسها». بينما الأستاذ زهير الخويلدي عرج على موقف موران فهو: «يفسر الإرهاب من خلال العوامل الذاتية التي ترجع إلى الطابع المضطرب للشخصية، والعوامل الموضوعية التي تعود إلى هيمنة العولمة المتوحشة».
في آخر المطاف، فإن التحليل الفلسفي للإرهاب ظروف متعددة. ثمة مسافات كبرى بين جودة تحليل وآخر. مشكل الخير والشر، الأنا والآخر، عطب الحقيقة، المعضلات الأخلاقية، مفهوم العدالة، معنى الدولة، أسس الديمقراطية، التواصل والحوار، المجال اللغوي، كلها تتقاطع لفهم ظاهرة الإرهاب وتحليلها. الظاهرة الإرهابية تفاعلت مع المجتمعات بطريقة استخدام القيم ونقضها في آنٍ، مما يستوجب تحديث التحليلات الفلسفية لها باستمرار بقدر تطور أساليب الإرهاب وأدواته.