جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ألقاب للبيع

مع بداية كل سنة ميلادية جديدة، تصدر الجهات البريطانية المختصّة قوائم طويلة، تنشر في وسائل الإعلام، بأسماء مواطنين محظوظين، حظوا بشرف نيل ألقاب أسبغتها عليهم الملكة إليزابيث الثانية، نتيجة لما قدموه من أعمال خيرية، أو إنجازات علمية أو موسيقية، أو فنية، أو إحرازهم بطولات رياضية، أو لدى انتهائهم من أداء مهام ومسؤوليات حكومية تولوها، طيلة فترات زمنية تطول وتقصر، مثل رؤساء الحكومات والوزراء ورجال السلك الدبلوماسي وكبار ضباط الجيش، وكبار المسؤولين في دواوين الحكومة، ورجال الأعمال.
القوائم المذكورة، في العادة تعدّها الحكومة، وتحديداً مكتب رئيس الوزراء، حيث يتم اختيار المرشحين لنيل الشرف الملكي بعناية. ويحرص المسؤولون على أن تكون القوائم شاملة، تضمّ فئات اجتماعية متعددة، تمثل كل أطياف المجتمع. الألقاب الممنوحة ليست واحدة في المرتبة، بل تتعدد، بتفاوت الرتب والمسؤوليات والإنجازات. رؤساء الحكومات، مثلاً، يحظون بألقاب أعلى من تلك التي تمنح للوزراء وكبار المسؤولين، وهكذا. كما تشمل القوائم أسماء مرشحين لمجلس اللوردات. ويتمّ منح بعض الألقاب في مراسم رسمية، تتم بحضور الملكة، أو من ينوب عنها من أفراد الأسرة المالكة، في حين أن بعضها الآخر يُمنح عن طريق التبليغ برسالة رسمية.
وكما أن هناك من يسعى حثيثاً لنيل لقب ملكي تشريفي، هناك، أيضاً، من يرفضه، لأسباب شخصية أو لمواقف سياسية أو عامة. وهناك من قبلوا بالتشريف الملكي، ثم قرروا بعد مضي فترة زمنية إعادته احتجاجاً ضد مواقف أو قرارات صدرت عن الحكومة. وبالطبع، هناك من يسعى إلى نيل الألقاب، ولكن من دون جدوى. ويلعب رؤساء الوزراء وقادة الأحزاب دوراً في تسمية المرشحين، خصوصاً لمجلس اللوردات. لكن القائمة النهائية يعدّها مكتب رئيس الوزراء، وتوقعها الملكة إليزابيث الثانية. وقرأتُ، مؤخراً، أن رئيس وزراء سابقاً، هو توني بلير، حُرم من التشريف الذي حظي به غيره من رؤساء حكومات سابقين، لأن الملكة ترفض التوقيع على مرسوم بتشريفه، لغضبها من تصرفه كرئيس حكومة لدى وفاة الأميرة ديانا. وأدى ذلك إلى تعطيل منح خلفه غوردن براون ما يستحق من تشريف ملكي، الأمر الذي أفضى بالمختصّين في هذه الشؤون المراسمية إلى البحث عن حلول ترضي بلير وبراون، بمنحهما ما يستحقان من تشريف، وفي الوقت نفسه، لا تثير حنق الملكة.
هذا التقليد الملكي قديم العهد، وربما يعود تاريخياً إلى العهد الإقطاعي أو ما قبله، وحافظ على استمراريته - رغم تغيّر الحياة وتطورها - بشكل يلفت الاهتمام، إن لم يكن الإعجاب. ولم يكن حكراً على ملوك وملكات بريطانيا. ومن المهم لفت الأنظار إلى حقيقة أن المنح التشريفية الملكية، في البداية، كانت تقدم نتيجة لمن يقدمون خدمات للملك في الحروب والدفاع عن المملكة. وكانت الألقاب تمنح مرفوقة بأعطيات ملكية، تتمثل في أراضٍ وأملاك وعقارات، تعبيراً عن امتنان الملك ورضاه. وينال أصحاب الألقاب العالية مكاسب تتمثل في إقطاعات بمساحات كبيرة، ويقرّبون من البلاط الملكي، بأن يصيروا من الحاشية الملكية. التقليد الملكي واصل استمراريته بتغيّر ليس طفيفاً. بمعنى أن القوائم السنوية والمنح التشريفية الملكية استمرت، لكن من دون أعطيات. ورغماً عن ذلك، ما زالت الألقاب تستقطب الاهتمام، بل وفي بعض الأحيان، مدعاة للتنافس، خصوصاً لفئات معينة من المجتمع، ممن جاءوا من أصول اجتماعية متواضعة، وحققوا نجاحات مهنية، غيّرت من أوضاعهم الاجتماعية مالياً، وصاروا في حاجة لنيل حظوة ملكية تعترف بهم، عبر منحهم ألقاباً ملكية تشريفية، تميّزهم وتعيد تموضعهم في مرتبة اجتماعية تليق بوضعيتهم المالية الجديدة. أصحاب هذه الفئة تحديداً، كانوا وراء ما صار يطلق عليه «مال مقابل ألقاب»، بمعنى سعي هؤلاء إلى تقديم منح وتبرعات مالية إلى الأحزاب السياسية، خصوصاً إلى الحزب الحاكم، بغرض ترشيحهم لنيل ألقاب. وتتوقف مرتبة اللقب على القيمة المالية التي يقدمها الشخص. إذ كلما عظمت القيمة المالية علت مرتبة اللقب الممنوح، الأمر الذي أدى في السنوات الأخيرة إلى ازدياد كبير في أعداد مجلس اللوردات، إذ تجاوز عددهم 800 لورد، ما تسبب في إثارة ضجة، وازدياد في علو نبرات عديد من الأصوات في وسائل الإعلام، تطالب الحكومة بالتعجيل بضرورة إصلاح المجلس، عبر تخفيض عدد أعضائه، بغرض التخفيف على الميزانية العامة من تكاليف أعبائه المالية المتزايدة. وما يستحق الذكر، أن الدعوة إلى إصلاح مجلسي اللوردات والنواب، ليست جديدة، ورغم محاولات عدة رؤساء حكومات سابقين إلى إجراء إصلاحات بتخفيض عدد النواب واللوردات، فإن الفشل كان مصيرهم، بل وسعت كل حكومة إلى زيادة عدد أعضاء مجلس اللوردات كل عام، بترشيح أسماء جديدة. وفي هذه السنة، تجرأ رئيس الوزراء بوريس جونسون على ترشيح شخصية معروفة من حزب المحافظين ليصبح لورداً، رغم صدور حكم قضائي ضده في الماضي لسوء تصرفه، وذلك بطلبه من رجال أعمال تقديم تبرعات مالية للحزب مقابل تدبير فتح منافذ أمامهم تتيح لهم اللقاء بوزراء ومسؤولين في الحكومة.