د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

ثالوث «التوهان»

أول قرار جوهري يتسرع في أخذه الأفراد والمؤسسات هو ما يدفعون ثمنه غالياً لاحقاً. هذا القرار هو «الوجهة» المقصودة. فحينما يقرر أحدنا الاتجاه بسيارته شمال البلاد يستحيل أن يجد نفسه في جنوبها. وإذا ما واجهت المرء تحديات الرحلة فقد يتأخر لكنه في نهاية المطاف سيصل أو يقترب من هدفه. وهذه السنة الكونية أو المفهوم الشهير في التخطيط هو ما كان وراء أعظم إنجازات الشركات والأفراد في العالم، فضلاً عن شيء من الحظ والاستعداد.
فبعدما قررت شركة مايكروسوفت أن تكون أفضل شركة في برمجيات الحواسيب حققت مبتغاها. وسار بيل غيتس نحو وجهته عندما سهل استخدام الحاسوب من شاشة الدوس السوداء بحروفها الكئيبة بلا صور إلى نوافذ (ويندوز) التي غيرت وجه الحواسيب وسهلت استخدامها.
وبعد ظهور الهواتف الجوالة قلب رئيس شركة أبل ستيف جوبز الطاولة على العملاق نوكيا في مؤتمر 2007 عندما كشف على خشبة المسرح للملايين عن هاتف يدعى «آيفون» الذي صار مفتوحاً لكل المبدعين في العالم عبر ابتكار ما يحلو لهم من تطبيقات. هنا انطلق فصل مدهش في تاريخ البشرية بعدما كانت نوكيا تصعب مسألة إضافة محتوى لا يمر عبر جسرها المعقد.
فصارت شركته بفضل هذه الرؤية (الوجهة) أول شركة عامة في العالم تتجاوز قيمتها السوقية تريليون دولار عام 2018. وعندما قررت ستاربكس أن تكتسح السوق العالمية سخرت كل ما لديها للانطلاق نحو تلك الوجهة المحفوفة بالمخاطر. فصارت تفتتح عدة مقاهٍ جديدة يومياً في العالم. وكذلك ماكدونالدز اختارت الاتجاه نحو إنشاء شركة أشبه بالنموذج العقاري، فإذا ما أخفقت عملياتها التجارية وجدت عقارات تسندها. فهي تمتلك عقارات وتؤجرها لمن يطلب منها حقوق امتياز franchising فيتحول إلى مؤجر لديها. وترفع علمها الشهير خفاقاً إشارة إلى وجود مجتمع عقاري يستحق أن يؤمه أصحاب المحلات والأفراد من كل حدب وصوب.
وكشخص عملت في مجالس إدارة شركات في مختلف القطاعات كالصناعية في أميركا والعقارية والاستثمارية والخدمية في الخليج، رأيت كيف يمكن أن يقربنا القرار الأول (أي الوجهة الاستراتيجية) من هدفنا. مشكلة التخطيط أن البعض يعتبره كلاماً إنشائياً لكنه في الواقع مبني على فكرة التكيف مع المتغيرات ومرونة التغيير، وذلك كما نحاول أن نشرحه لطلبة «البزنس» في الجامعة.
وكذلك حال الأفراد عندما لا يضع المرء أهدافاً حياتية واضحة يقسمها إلى خمسية وسنوية فإنه لن يستطيع أن يتقدم خطوة باتجاه هدفه. ما يقدمنا نحو أهدافنا أننا نعرفها بوضوح على ورقة، ونتأملها باستمرار حتى ننطلق تدريجياً نحو تحقيقها. جامعة هارفارد سألت خريجيها عام 1979: «هل لديكم هدف واضح مكتوب تودون تحقيقه في المستقبل؟ وهل وضعتم خططاً تسعون إلى تطبيقها؟»، وكانت النتيجة أن 3 في المائة فقط هم الذين وضعوا أهدافاً مكتوبة وخططاً يودون تحقيقها! وبعد عشرة أعوام حقق هؤلاء ما معدله عشرة أضعاف دخول زملائهم من خريجي الدفعة برمتها.
إذن «تحديد وجهتنا» في الحياة (الرؤية) هو الضلع الأول في ثالوث تحاشي التيه. والضلع الثاني «واقعية الأهداف» أي إمكانية قياسها، فما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته كما نقول في الإدارة. والثالث هو «الاستعداد للسيناريو الأسوأ». وجميعها عناصر جوهرية ومهمة في التخطيط وتجاهلها يعرضنا لحالة من التيه أو «مكانك راوح» كما نقول.
ولو تأملتَ المؤسسات والأفراد التائهين في حياتهم تجدهم لم يتدبروا جيداً خطورة تجاهل هذا الثالوث المهم في التخطيط الإداري.