حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

حتى لا يدفع لبنان الثمن!

«القرار مصادَر وهناك مَن يرهن مصير لبنان بدولٍ أخرى». إنه التشخيص الأوفى للمسألة اللبنانية، أطلقه البطريرك الراعي، وهو يرصد تفاقم الانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية وتفشي الوباء القاتل (كوفيد - 19) بشكلٍ غير مسبوق، بحيث بدا لبنان، البلد المتروك للأقدار، يودّع أهله عام 2020 الذي أثخنهم بجروحه، لمواجهة مجهول يحمله عام 2021!
في الظاهر مَنَع تشظي منظومة الحكم واتساع الخلافات بين أطراف نظام المحاصصة الطائفي تأليف الحكومة الحريرية، التي رغم بهرجة التسميات: حكومة اختصاصيين، لا تعدو كونها استنساخ الحكومات السابقة، بحيث إن أكثر ما يمكن أن تقوم به هو إدارة جزئية للأزمة المستحكمة، كبديل عن فراغٍ حكومي كامل بدأ يوم ابتدع «حزب الله» والقصر حكومة الواجهة، فكيف هو الحال وهذه الحكومة في مرحلة تصريف الأعمال، منذ العاشر من أغسطس (آب) بعدما أسقطتها جريمة تفجير مرفأ بيروت.
يشكّل اليوم عجز منظومة الحكم عن التأليف، بعد إسقاطهم فكرة «حكومة المهمة» التي ارتبطت بالمبادرة الفرنسية، تأكيداً أن قرار التأليف من عدمه بيد طهران، وكلمة السر بشأنه لم تصل بعد. لا، بل إنه تأسيساً على تصريحات حسن نصر الله، تم ترحيل التأليف إلى ما بعد 20 يناير (كانون الثاني)، وهذا بالضبط ما كان يان كوبيتش، الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، قد ركز عليه من خلال تغريدة قالت إن «ورقة الحكومة اللبنانية انضمت إلى مروحة الأوراق العالقة في قبضة إيران»، بانتظار أن «يحين وضعها على طاولة التفاوض مع الإدارة الأميركية الجديدة»! فالتقى مع رؤية النائب السابق وليد جنبلاط الذي رأى «أن القوة المركزية في لبنان، أي إيران المتمثلة في (حزب الله)، تنتظر تسلم الرئيس الأميركي بايدن للتفاوض معه على الملف اللبناني وعلى الصواريخ والعراق وسوريا واليمن»... ما يعني أن كل الترهات عن شروط تأليف الحكومة ووحدة المعايير لم تكن أكثر من غطاء للقرار الحقيقي حجز تأليف الحكومة، فكانت صرخة بكركي: «أي ضمير يسمح بربط إنقاذ لبنان بصراعات لا علاقة لنا بها لا من قريب ولا من بعيد»؟!
لكن مهلاً، المطلوب من هذا اللبنان المسيطَر عليه أكثر من ذلك بكثير. لقد تم تحويله إلى ما يعادل الموقع المكرس لقوى محور الممانعة. بذلك يكون الطرف الممسك الفعلي بقرار البلد، قد دفع لبنان قسراً إلى المحور الإيراني، متجاوزاً كل النقاشات والمطالبات والحوارات التي كان يمكن لها أن تفك أسر لبنان وتكسر عزلته، لا سيما أن المبادرة الفرنسية يمكن لو تم السير بها أن تكون بوابة استعادة لبنان لدوره التقليدي، حيث حياته الحقيقية واستقراره وأمانه يتوفر من خلال عمقه العربي، وأولاً الخليجي، فيستعيد بالتالي علاقاته التقليدية مع مجموعة أصدقاء لبنان.
بهذا المعنى تم زج لبنان في صراع المحاور، وفُرض عليه وضع أكبر بكثير من طاقته وفوق ما يمكن أن تتحمله تركيبة الموزاييك اللبناني. وبشكل أحادي «حسم» هذا المنحى زعيم «حزب الله» الذي حدّد دور لبنان كجبهة إسنادٍ للمحور الإيراني في المنطقة، وربما أكثر من إسناد، عندما كشف عن نية الانتقام لمقتل قاسم سليماني ليرى أن فعل الانتقام لدماء قاسم سليماني «ليس واجباً إيرانياً فقط»!
نفتح مزدوجين كي نشير إلى أنه مرت قبل أيام قليلة الذكرى السابعة على مقتل الوزير اللبناني السابق محمد شطح، وكُثرٌ يومها الذين ربطوا بين مقتله ومضمون الرسالة التي بعث بها إلى الرئيس الإيراني الجديد آنذاك حسن روحاني، والتي حمّلت نظام الملالي تداعيات سياسة إضعاف الوحدة اللبنانية عندما أورد وفق النص الذي نشرته «وول ستريت جورنال» أن «حزب الله» يحتفظ بقوة عسكرية «خارج سلطة الدولة، ويحصل هذا بدعمٍ ورعاية مباشرة من بلادكم»... وأن هذا الوضع «شكّل عائقاً أساسياً بوجه الجهود الوطنية لتعزيز مؤسسات الدولة ووضع حدٍّ لإرث الحرب الأهلية وانتشار السلاح، وإضعاف الوحدة الوطنية وجعل البلاد عُرضة لتداعيات اتساع خطوط التصدع المذهبية في المنطقة»! أي إن شطح كشف مبكراً أن الاستهداف الإيراني من وراء هذا الوضع هو الانخراط في الحروب على المنطقة، وهو ما جرى ويتواصل، بما لا يعني لبنان. لقد فرضت هذا الانخراطَ في الصراع الإقليمي متطلباتُ مشروع نشر الثورة الإيرانية، وهو أمر لا ناقة للبنان فيه ولا جمل!
هنا ينبغي التسجيل أن تحول هذه الميليشيا المسلحة إلى لعب هذا الدور وما تطلبه من تمكُّنٍ، وكيف يُنظر إليه اليوم، ما كان ليشهد هذه الاندفاعة لولا صفقة تسوية عام 2016 التي جاءت بالعماد عون إلى رئاسة الجمهورية، فمنذ ذلك التاريخ لم يتوقف تسديد فواتير هذه الرئاسة! ومعروف أن القصر منح سلاح الدويلة صفة شرعية حتى نهاية أزمة الشرق الأوسط، وتكررت معزوفة الحاجة إلى هذا السلاح لأن الجيش ضعيف (...)، ومعروف كذلك أنه في ظلِّ هذه التسوية وصف الحريري السلاح الفئوي بأنه إقليمي، وأن «حزب الله» لم يستخدمه في الداخل (...)، وفي بيوتٍ بيروتية كثيرة لم تجف بعد دماء الضحايا الذين سقطوا غيلة في السابع من مايو (أيار) 2008 الذي من بعده ذهب الحريري إلى بدعة «ربط النزاع» مع الحزب!
لم يسأل أحد عن موقع لبنان ودوره، وعن أحلام أهله ومصالحهم، وعن الثمن الذي سيترتب عليه، بعد تهميش الحقوق واستعداء العرب والعالم، ومن دون أي تبصر بتداعيات ما يشاع عن أحلام إمبراطورية فارسية، تحاكي أحلام العثمانية الجديدة. أبرزت هذه العثمانية خريطة الدولة السلجوقية التي تشمل كل شمال الشرق الأوسط وجزءاً من جنوب أوروبا! فيما لوّحت طهران بخريطة «إيران العظمى» التي كشف عنها محسن رضائي، أمين سر مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي قال إنها «تتشكل من شمال الخليج وبحر عُمان فتضم 15 بلداً من السند وسيحون في الشرق إلى غزة ولبنان في الغرب»! يعني أن حكاية «الهلال الفارسي» ليست سوى محطة متواضعة في سياق هذا الحلم الذي يدرك أي عاقلٍ استحالته!
مرة أخرى، ما شأن لبنان في كل هذا المشروع الإمبراطوري، بعدما حوّلته سياسة النهب والإلحاق بمحور الممانعة إلى ضاحية مهملة فقيرة تجاور إسرائيل؟ وبأي حقٍ يُزج بلبنان في نار مخططات إقليمية من هذا النوع ويتم التغافل عن أخطارها الداهمة، ولا يتم التوقف مثلاً عند تنامي عزلة البلد وأمام الجميع ظاهرة تراجع الحضور الدبلوماسي في لبنان؟ وماذا لو جرت أي محاولة لوضع هذا المشروع الإمبراطوري في التطبيق؟ وماذا سيبقى من البلد الذي يُحول قسراً إلى كمية من الحطب في خدمة المخطط المستحيل؟