خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

الحرب من طرف واحد

تناقِش شخصاً محترماً في وضع دولة مثل إيران، فيقول لك: هذا بسبب الحرب الأميركية عليها. لولا العقوبات ما كانت إيران في وضع كالتي فيه! وهي مقولة لا ينهكها الزمن، ولا يتجاوزها التعلم والقراءة والوعي. رغم كونها مشينة لعقل صاحبها ولو كان طفلاً اجتاز لتوّه المرحلة الابتدائية.
هي أشبه بملاكم ناشئ تحدى مايك تايسون. فلما «شخرمه» الأخير خرج في المؤتمر الصحافي يقول: لقد ضربني. ضربني بعضلاته القوية. ضربني بقوته الاقتصادية. ضربني لمجرد أنني أردت أن أفوز عليه. ولا بأس من توزيع الملامات على بعض جيرانه، على طريقة ريا وسكينة في المسرحية الشهيرة: «عضّت يدّي وأنا باخنقها... تقوليش عدوتها!».
كان الملاكم الصغير يريد أن يدخل الحلبة متحدياً، فيقابله تايسون مبتسماً. يأخذ اللكمة الأولى فيدير وجهه للثانية. وينظر الملاكم الصغير إلى جمهوره من أبناء الحارة ويرفع يديه محيياً. ويرد أبناء الحارة التحية بأحسن منها: يا عترة. يا قبضاي. يا فتوة! يا ابن حارتنا العظيم.
كان يريد بطولة بلا شروط بطولة. بطولة ثمنها الوحيد بعض ادعاءات. بطولة بلا سابق تدريب وتنمية للمهارات والعضلات. بطولة بلا منافسة ولا تحدٍّ مقابل. بطولة بالمناكفة اللفظية. المهارة الوحيدة التي يبرع فيها والتي يأمل أن يجر العالم كله إليها.
هذا الخطاب السياسي المعوجّ، الذي تتناقله أقلام شهيرة، لأناس في مواقع مسؤولية، كما تتداوله ألسنة على المقاهي، هذا الخطاب السياسي مجرد آفة من آفات التفكير الاستحقاقي.
ما التفكير الاستحقاقي؟ تفكير المجتمعات التي تعتقد أنها أتت إلى العالم مستحقةً لأشياء لا تحق لغيرها.
الإسلامجية يرون أن من حقهم «استرداد» الأندلس. المنطقة التي غزاها المسلمون فحكموها لمدة ثمانية قرون. فإن قلت لهم إن هذا المنطق يعني أن من حق ورثة الإمبراطورية الرومانية استرجاع القسطنطينية (إسطنبول) وطروادة، وربما الساحل الشرقي للبحر المتوسط وساحل شمال أفريقيا، لم يستوعبوا. فهم يرون العالم من وجهة نظرهم هم فقط.
لن يفهموا الغرض الجدلي. سيلتفتون إلى الجماهير من حولك ويحرّضونها عليك. والجماهير مستعدّة لذلك تماماً. فهي متغذية على نفس التفكير الذي يعتقد أصحابه أنهم أصحاب الحق في وراثة الأرض. شكراً للطرف الثاني الذي يغذّيه اليسار الراديكالي، والقوميون العروبيون، كلٌّ بطريقته.
هكذا يريد القادة الشعبيون، من الشرق الأوسط حتى فنزويلا، أن يديروا السياسة. وهكذا أراد مروِّجو أفكارهم للجماهير أن تفهم السياسة: تصرفات بلا عواقب. رغبات بلا موازنات. طموحات بلا قدرات. من حقك التصرف كما تريد، متحدياً من تريد، لكن إن قَبِل الآخر التحدي وحدثت المواجهة صرخنا: هذه مؤامرة!
نحن نريد الحرب من طرف واحد. نريد من العالم أن يتجاهل تصرفاتنا. «فوِّتها يا أخي»! دعني أختال على جماهيري. دعهم يحملوني على الأعناق ويشجعوني على التحدي التالي. وفي التحدي التالي تجاهلني أيضاً. «أنت الكبير»!
افتراض ساذج. تذاكٍ مفضوحٌ لا ينطلي على أحد. وأمله الوحيد في المرور هو غفلة الطرف الآخر أو تغافله.
ثم هي نظرة لا واقعية للعالم. لقلنا إن منبع لا واقعيتها افتراض أن العالم طيب للغاية ولا عدوانية فيه ولا تنبغي له. لولا أن النظرة صادرة عن، ومُصدَّرة من، بعض أكثر من في العالم تحدثاً عن الحرب، وعن عدوانية الآخرين.
أيهما إذن؟ هل منهجك في السياسة الدبلوماسية ومراعاة توازن القوى؟
أم أنك بطل حرب، قاهر لقوى الاستعمار، وما أُخذ - منك أنت فقط - بالقوة لا يُسترد بغير القوة، وبالتالي أنت مستعد للحرب أفضل استعداد وعلى قدر المواجهة؟ أيهما يا أخي؟ أي القواعد تريدها للمباراة، للصراع السياسي بين الدول؟
الإجابة الحقيقية: لا هذا ولا ذاك. لأن الخيار الأول يفوّت عليه وسام البطولة. والخيار الثاني يُظهر حجمه في كأس العالم للسياسة. ما يريده أصحاب هذا التفكير خيار ثالث مستحيل تزيّنه له عقولهم وتغريهم به، ويروّجه لهم خطباء إعلاميون، فيجرّبونه مرة بعد مرة بعد مرة وإلى الأبد. يريدون إطلاق تصريحات الحرب، واتخاذ إجراءات داعية إليها، فإن بدأت قالوا - وقلنا - مؤامرة، والدليل أننا لطالما غنّينا للسلام، من البداية غنّينا للسلام: «بالسلام إحنا نادينا بالسلام. ردت الدنيا علينا بالسلام». يا سلام! يا سلام!